للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأسقف قد أسلم: عظني. فقال: يا أمير المؤمنين إن كان الله عليك فمن ترجو؟ قال: أحسنت فزدني. قال: إن كان الله معك فمن تخاف؟ قال: أحسنت فزدني. قال: أحسب أن الله قد غفر للمذنبين، أليس قد فاتهم ثواب المحسنين؟ قال: حسبي حسبي وبكى علي أربعين صباحاً. وقال الحسن: قدم صعصعة يعني عم الفرزدق على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه يقرأ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (الزلزلة٨: ٧)

فقال: حسبي حسبي لا أبالي أن لا أسمع آية غيرها. وقال سليمان بن عبد الملك الحميد الطويل: عظني. فقال: إن كنت قد عصيت الله وظننت أنه يراك فلقد اجترأت على رب عظيم، وإن كنت تظن أنه لا يراك فلقد كفرت برب كريم.

وكتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى سليمان: إنما مثل الدنيا كمثل الحية لين لمسها ويقتل سمها، فأعرض عنها وعن ما يعجبك منها لقلة ما يصحبك منها، ودع عنك همومها لما تيقنت من فراقها، وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكره منها، فإن صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور أشخص منها إلى مكروه. وقال أبو العتاهية:

هي الدار دار الأذى والقذى ودار الغرور ودار الغير

فلو نلتها بحذافيرها لمت ولم تقض منها الوطر

أيا من يؤمل طول الحياة وطول الحياة عليه خطر

إذا ما كبرت وبان الشباب فلا خير في العيش بعد الكبر

ولما بلغ مردك من الدنيا أفضل ما سمت إليه نفسه ورقت إليه همته، رفضها ونبذها وقال: هذا سرور لولا أنه غرور، ونعيم لولا أنه عديم، وملك لولا أنه هلك، وغنى لولا أنه فناء، وجسيم لولا أنه ذميم، ومحمود لولا أنه مفقود، وغناء لولا أنه مناً، وارتفاع لولا أنه اتضاع، وعلا لولا أنه بلا، وحسن لولا أنه حزن، وهو يوم لو وثق له بغد. يا أيها الرجل لا تكن كالمنخل يرسل أطيب ما فيه ويمسك الحثالة. واعلم أن من قسا قلبه لا يقبل الحق وإن كثرت دلائله، قال الله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ*ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (البقرة٧٤: ٧٣) .

وذلك أن كثرة الذنوب مانعة من قبول الحق للقلوب وولوج المواعظ فيها. قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين: ١٤) ، أي غطاها وغشيها فلا تقبل خيراً ولا تصلح لموعظة.

جاء في التفسير: إذا أذنب العبد ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء، ثم إذا أذنب نكتت في قلبه نكتة سوداء، ثم كلما أذنب نكتت نكتة سوداء حتى يسود القلب. وقال حذيفة: القلب كالكف فإذا أذنب العبد انقبض وقبض إصبعاً، ثم إذا أذنب انقبض وقبض إصبعاً أخرى، ثم كذلك في الثالث والرابع حتى ينقبض الكف كله ثم يطبع الله عليه، وذلك هو الران.

وقال بكر بن عبد الله:

إذا أذنب العبد صار في قلبه كوخز الإبرة، ثم كلما أذنب صار فيه كوخز الإبرة، ثم كلما أذنب صار فيه كوخز الإبرة حتى يعود القلب كالمنخل. وقال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يموت القلب. وقال ابن شبرمة: إذا كان البدن سقيماً لم ينفعه الطعام، وإذا كان القلب مغرماً بحب الدنيا لم تنفعه الموعظة. وقد قيل:

إذا قسا القلب لم تنفعه موعظة كالأرض إن سبحت لم ينفع المطر

<<  <   >  >>