سبحانه وتعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}(النحل: ١٢٦) . وهذا نص لا يحتمل التأويل. وتحقيق القول في ذلك أن الانتصار عدل والعفو فضل، وفضل الله أحب إلينا من عدله، لأنه إن عدل علينا فأخذناه بحقه هلكنا، وإن عفا عنا برحمته تخلصنا، ولو كان العدل يسع الخلائق لما قرنه الله تعالى بالإحسان، ولما علم أن في العدل استقصاء ومناقشة، وذلك مما تضيق عنده النفوس وتحرج له الصدور. نيط الإحسان بالعدل فقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ}(النحل: ٩٠) . وأيضاً فإن الانتصار سيئة والعفو حسنة. قال الله تعالى:{وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ}(فصلت: ٣٤) . والدليل على أن الانتصار سيئة قوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}(الشورى: ٤٠) . غير أنه إنما سميت سيئة لما كانت منتجة سيئة لا أنه لا يجوز الانتصار، وهو كقول عمرو بن كلثوم الثعلبي:
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فسمى الجزاء على الجهل جهلاً وإن لم يكن في الحقيقة جهلاً. وعن هذا روت عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم منتصراً من مظلمة ظلمها قط، غير أنه إذا انتهك شيء من محارم الله تعالى فلا يقوم لغضبه شيء. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: ينادي منادٍ يوم القيامة من كان له على الله أجر فليقم، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا. فإن عفوت أيها الطالب كان أجرك على الله، وإن لم تعف كان حقك قبل من ظلمك، ولأن يكون أجرك في ضمان الله تعالى أوثق من أن يكون قبل مخلوق. وأيضاً فإنك إن لم تعف نلت حقك بلا زيادة عليه، وإن عفوت كانت حسنة أسديتها لأخيك، والله تعالى يقول:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}(الأنعام: ١٦٠) . وشفع الأحنف ابن قيس إلى السلطان في محبوس فقال له: إن كان مجرماً فالعفو يسعه، وإن كان بريئاً فالعدل يسعه.
وقيل لبعض الكتاب بين يدي أمير المؤمنين: بلغ أمير المؤمنين عنك أمر. فقال له: لا أبالي! فقيل له: ولم لا تبالي؟ فقال له: إن صدق الناقل وسعني عفوه، وإن كذب وسعني عدله. ولما دخل عيينة بن حصن على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا ابن الخطاب والله ما تعطينا الجزل وما تحكم فينا بالعدل! فغضب عمر وهم أن يوقع به، فقال ابن أخيه: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}(الأعراف: ١٩٩) . وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان عمر وقافاً عند كتاب الله تعالى. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. وقال: ارحم ترحم. وكان يقال: أولى الناس بالسلطان أحقهم بالرأفة والرحمة. وفي الإنجيل أفلح أهل الرحمة لأنهم سيرحمون.
وقال سليمان بن داود عليهما السلام: لقد أبغض الله المتسرعين إلى هرق الدماء، انتهت إليهم القسوة والغلظة والتباعد من الرحمة. ولما تمكن داود من قتل جالوت أبقى عليه وهو يومئذ عدوه وطالبه وقال: رب أعظم دمي في عين أعدائي كما عظمت في عيني دم عدوي، وكذلك خلصني من جميع الهموم. وقالت حكماء الهند: لا سؤدد مع انتقام، ولا رياسة مع عزازة نفس وعجب. وقالت الحكماء: ليس الإفراط في شيء أجود منه في العفو، ولا هو في شيء أقبح منه في العقوبة. وكذلك التقصير مذموم في العفو محمود في العقوبة. واعلم أنك لأن تخطئ في العفو في ألف قضية خير من أن تخطئ في العدل في قضية واحدة. وقال معاوية رضي الله عنه: إني لأرفع نفسي أن يكون ذنب أعظم من عفوي، وجهل أكبر من حلمي، وعورة لا يواريها ستري.