بحسن العفو لم يوحشها الذنب وإن عظم، وإن خشيت منه العقوبة أوحشها الذنب وإن صغر، حتى يضطره ذلك إلى المعصية. ومن الحكمة البالغة في هذا قول سابور وقد جمع أولاده فقال: يا بني إذا أعجزكم أن تملؤا قلوب الرعية حياء فاملؤوها خوفاً، وليس ذلك بأن تحمل العقوبة على من لا يستحقها ولكن تعجيلها لمن يستحقها. وفي هذا المعنى قال الله تعالى:{فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ}(الأنفال: ٥٧) . وهذا المعنى لا يختل عما أوجبناه، وهذا معنى قول سابور ولا يخالف ما قررنا من حسن العفو، بل هذا المحمول على الواجب المستحق أو على ما في تركه إغراء بركوب أمثاله، فها هنا يكون العفو مفسدة.
فيا أيها المعاقب إذا أقمت على مذنب عقوبة فلا تكن كالمستشفى المتلذذ بعذابه، لأنك وإياه أخوان لأب وأم آدم وحواء، لم تفضله بحولك وقوتك بل بما فضلك الله به تطولاً عليك، فاذكر لو كنت في مقامه وكان في مقامك، ولا تأمن من تقلب الدهر فتقوم مقامه بين يدي من لا يرحم ولا ينظر في العواقب، واحذر التفريط والتقصير فأقم نفسك مذنباً أقيم للعقوبة، وليكن عقابك مقدراً كما كان عطاؤك مقدراً، وليكن عقابك للتقويم لا للانتقام وللزجر لا للهوى. وعن هذا قال بزرجمهر: لا ينبغي للملوك أن يكرموا أحداً بهوان من ليس للهوان أهلاً، وأن يهينوا أحداً بكرامة من ليس للكرامة أهلاً. لا تكن على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا على البخل أسرع منك إلى البذل. قال الشاعر:
صفوح عن الإجرام حتى كأنه
من العفو لم يعرف من الناس مجرماً
فليس يبالي أن يكون به الأذى
إذا ما الأذى بالكره لم يغش مسلماً
وقال سليمان بن داود عليهما السلام: التنكيل والعقوبة أمنية الملك الشرير وعلى مثله يبعث الله ملكاً غير رحيم. وقال معاوية: لا ينبغي للملك أن يظهر منه غضب أو رضى إلا ثواب أو عقاب. وقال أزدشير: فضل الملك على السوقة إنما هو بقدرته على اقتناء المحامد واستفادة المكارم. فكلما استكثر منها بانت فضيلته واستحقاقه لموضعه من الولاية عليهم، وكلما نقص منها قرب من السوقة. وقال المأمون: إني لأجد لعفوي لذة من لذة الانتقام. واعلم أنه إذا عاقب الملك وأهان على ظن بغير يقين، أدخل على نفسه من قبح الخطأ في الرأي أعظم مما أدخل على صاحبه من العقوبة.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الغالب بالشر مغلوب وما ظفر من ظفر إلا بالإثم. وقيل لأفلاطون: أي شيء من أفعال الناس يشبه أفعال الله تعالى؟ فقال: الإحسان إلى الناس. وقال حكيم: الحلم قوام السفيه والعفو زكاة العقل. وقال حكيم: السيد الذي لا يشين حسن الظفر بقبح الانتقام، وخير مناقب الملوك العفو. وكان يحيى بن معاذ يقول: سبحان من أذل العبد بالذنب وأذل الذنب بالعفو. إلهي إن عفوت فخير راحم، وإن عذبت فغير ظالم. إلهي إن كنت لا ترضى إلا عن أهل طاعتك، فكيف يصنع الخاطئون؟ وإن كان لا يرجوك أهل وفائك فبمن يستغيث المستغيثون؟ وقال الشاعر:
وإن الله ذو حلم ولكن
بعز الحلم ينتقم الحليم
وروي أن الحجاج أخذ قطرى بن الفجاءة فقال: لأقتلنك! قال: ولم؟ قال: لخروج أخيك علي. قال: إن معي كتاب أمير المؤمنين أن لا تأخذني بذنب أخي! قال: هاته. قال: فإن معي أوكد منه، قال الله تعالى:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}(الأنعام: ١٦٤) . فتعجب من جوابه وخلى سبيله. ولما وفد عقيل بن أبي طالب على