للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ: إنَّ الآخَرَ زَنَى) [٣٠٣٦] هُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ، وإنَّمَا رَدَّهُ أَبو بَكْرٍ وعُمَرُ وقَالَا لَهُ: (تُبْ إلى اللهِ، واسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ) مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمِئِذٍ إليهما إقامَةُ الحُدُودِ، ولَمْ يَكُنْ إعْرَاضُ النبي - صلى الله عليه وسلم - عنْ ذَلِكَ المُقِرِّ عَلَى نَفْسِهِ بالزّنَا مِنْ جهَةِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ بالزِّنَا، كَمَا تَأَوَّلَ بَعْضُ النَّاسِ فَقَالَ: إنَّهُ [مِمَّنْ] (١) أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بالزّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ كَمَا في ظَاهِرِ حَدِيثِ النبي - صلى الله عليه وسلم - (٢).

[قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَيُقَالُ لِمَنْ تأَوَّلَ هَذا إنَّمَا أَعْرَضَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ هَذا المُقِرِّ بَعْدَ إقْرَارِهِ مِنْ أَجْلِ مَا وَقَعَ في نَفْسِهِ أَنَّهُ مَجْنُونٌ، وأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِشَيءٍ حَدَثَ بِهِ، ولِذَلِكَ سَأَلَ عَنْهُ، فَلَمَّا أُخْبِرَ أَنَّهُ صَحِيحُ العَقْلِ، وأَنَّهُ أَقَرَّ تَائِبًا مِنْ ذَنْبِهِ غَيْرَ فَارٍّ مِنْ شَيءٍ مِنْ أَسْبَابِ الدُّنيا أَمَرَ بهِ فَرُجِمَ.

* قالَ عِيسَى: قَوْلُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لِهَزَّالٍ: "لَوْ سَتَرْتَهُ برِدَائِكَ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ" [٣٠٣٧] , قالَ: كَان مَاعِزُ يَتِيمًا عِنْدَ هَزَّالي، وكَانَ مُحْصَنًا، فَقَالَ لِهَزَّالي: (إنّي زَنَيْتُ بامْرَأةٍ مِنَ الحَيِّ)، فَأمَرَهُ هَزَّالُ أَنْ يَأتِي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَيَعْتَرِفُ عِنْدَهُ بالزِّنَا، فأَتَاهُ فاعْتَرَفَ، فَلَمَّا أَمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرَجْمِهِ وأَحْرَقَتْهُ الحِجَارَةُ هَرَبَ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللهِ بنُ أُنيسٍ فَرَمَاهُ فَقتلَهُ، فقَالَ لَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا عَبْدَ اللهِ، لَوْ تَرَكْتَهُ لَعَلَّهُ كَانَ يَتُوبُ فَيتُوبُ اللهُ عَلَيْهِ"، فَحِينَئِذٍ قَالَ لِهَزَّالي: "يا هَزَّالُ، لَوْ سَتَرْتَهُ برِدَائِكَ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ"، يَعْنِي: لَوْ أَمَرْتَهُ بالسَّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ حِينَ أَخْبَرَكَ بِمَا صَنَعَ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ مِنْ أَنْ تَأْمُرَهُ أَنْ يأْتِي إلى مَنْ يُقِيمُ عَلَيْهِ الحَدُّ إذا أَقَرَّ عِنْدَهُ كَمَا فَعَلَ بهِ أَبو بَكْرٍ وعُمَرُ.

[قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وفِي هَذا الحَدِيثِ مِنَ الفِقْهِ: أَنْ يَسْتُرَ الرَّجُلُ عَلَى أَخِيهِ مَعْصِيَتَهُ، وأَنْ يَأْمُرَهُ بالتوْبةِ فِيمَا بَيْنَهُ وبَيْنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: وفِي هَذا دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ المُقِرِّ عَلَى نَفْسِهِ بالزِّنَا إذا رَجَعَ عَنْ قَوْلهِ، وقَالَ: (إنّي مَا زَنَيْتُ)، أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَعَبْدِ اللهِ بنِ أنيْسٍ: "لَوْ تَرَكْتَهُ لَعَلَّهُ كَانَ يَتُوبُ، فَيَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِ"، فإذا رَجَعَ المُقِرُّ


(١) جاء في الأصل: (من) وما وضعته هو المناسب للسياق.
(٢) هذا قول أبي حنيفة وأصحابه، ينظر: الإستذكار ٩/ ٢٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>