للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بالاستقراء هو العلم بأن حفظ الضروريات معتبر، لكن لم يحصل العلم بحل الجهات المعَيَّنَة للحفظ، وليس ذلك المقصود من الاستقراء لعسره وتعذر الإحاطة به. وفي ذلك يقول: " ... فإنه إنما عُلِم أن الحفظ على الضروريات معتبر؛ فلم يحصل العلم بجهة الحفظ المعينة، فإن للحفظ وجوهًا قد يدركها العقل وقد لا يدركها، وإذا أدركها فقد يدركها بالنسبة إلى حال دون حال، أو زمان دون زمان، أو عادة دون عادة". (١)

٣ - هناك جانب آخر يجب النظر إليه عند الحديث عن استقراء الأحكام الشرعية لإثبات مقاصد الشارع، وهو أنه ينبني التفريق بين كون الشارع قاصدًا إلى تحقيق مقصد ما، ومدى تحقق ذلك المقصد في الواقع العملي. فالأول هو المعنيُّ بالبحث، لأنه هو المتعلق بإرادة الشارع وقصده، أما الثاني فإنه لا يتعلق بقصد الشارع وإرادته فقط، بل له تعلق قوي بقصد المكلَّف وحاله وظروفه، فها هنا لا بُدّ لتحقيق المقصد من تكامل عمل الشارع وعمل المكلَّف. فإذا انخرم العنصر الثاني فقد يؤدي ذلك إلى عدم ظهور المقصد أو تخلفه في بعض الحالات، وليس معنى ذلك انعدام قصد الشارع وانخرامه، وإنما ذلك لعدم توفر شروط تحققه.

فمثلًا قصدُ الشارع من العقوبات الازدجار وهو قصد عام في جميع العقوبات، لكن هذا المقصد لا يمكن أن يتحقق واقعيًّا في نفوس الناس إلَّا إذا توافرت له أسبابه وشروطه. فإذا أدّت حال المعاقَب وظروفه إلى عدم ازدجاره، فليس معنى ذلك القدح في كون الشارع قاصدًا إلى ذلك، لأن الشارع إنما قصد إلى ترتيب الازدجار على العقاب، ولم يقصد إلى العمل على تحقيق ذلك عمليًّا في نفوس آحاد المعاقَبِين دون استثناء، وإنما ترك ذلك ليجري على حسب قوانين الأسباب والسنن.

٤ - لَمّا كان الاستقراء المعنوي في مجال إثبات المقاصد -بالمفهوم الذي تَمَّ توضيحه- لا يُعنى كثيرًا بمحاولة استقصاء جميع الجزئيات (وهو ما يسمى بالاستقراء التام)؛ لأن المقصود بالدرجة الأولى هو إثبات المقصد، وهو معنى من المعاني التي بثَّها الشارع في أحكامه، أي إثبات كون الشارع قاصدًا إلى اعتباره في أحكامه، وليس


(١) الشاطبي: الموافقات، مج ٢، ج ٣، ص ٧.

<<  <   >  >>