١٤٥ - قال الحافظ ابن حجر رحمه الله (١٣/ ٤٤٠): "وتصرف البخاري في هذا الموضع يقتضي موافقة القول الأول، والصائر إليه يسلم من الوقوع في مسألة حوادث لا أول لها، وبالله التوفيق". وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب ٢٧.
ــ التعليق ــ
قال الشيخ البراك: مقصود البخاري بترجمته لهذا الباب بيان الفرق بين الفعل والمفعول، وأن الفعل القائم بالرب - وهو تخليقه وتكوينه وأمره - غير مخلوق؛ لأن ذلك من صفته سبحانه، والله بصفاته غير مخلوق، والمفعول مخلوق، وهو المكوَّن بفعله وأمره وتكوينه.
فالمفعول أثر الفعل، والفعل صفة الفاعل، والمفعول ليس صفة له، وما قرره البخاري هنا من الفرق بين الفعل والمفعول هو الذي قرره في (باب خلق أفعال العباد) كما أشار إليه الحافظ، وهذا هو الحق الموافق للعقل والشرع، وعلى هذا فنوع الفعل والكلام من الله قديم، وآحاد ذلك حادثة تبعًا لمشيئته سبحانه وتعالى؛ فإنه لم يزل فعالاً لما يريد، فلا بداية لفاعليته، ولم يزل متكلمًا بما شاء إذا شاء. وأما جنس المفعول فلا ريب في إمكان قدمه؛ لأن ذلك لازم دوام فاعلية الرب وقدرته سبحانه، وبهذا التقرير يتبين الصواب والخطأ من الأقوال التي نقلها الحافظ في هذا المقام، وبيان ذلك فيما يلي:
١ - قوله:"وأصلها أنهم اختلفوا هل صفة الفعل قديمة أو حادثة ... إلخ": الصواب أن جنس الفعل القائم بالرب سبحانه قديم وآحاده حادثة، وهذا مذهب أهل السنة، وهو المراد مما حكاه الحافظ عن أبي حنيفة وجماعة من السلف، وأما قول ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما بأن صفة الفعل حادثة فالأظهر أن مرادهم بالفعل: المفعول؛ أي المخلوق، وعندهم أنه يمتنع دوام الحوادث في الماضي، فيجب أن يكون جنس المخلوقات حادثًا، وإذا كان المراد من الفعل في قولهم هو المفعول فلا معنى للتعبير عنه بالصفة؛ لأن المفعول ليس صفة للفاعل، ويبعد أن يريدوا بالفعل ما يقوم بالرب سبحانه لأنه لا يجوز عندهم أن يقوم به ما هو حادث بمشيئته. وبهذا يعلم أن الفعل الذي قال أبو حنيفة بقدمه ليس هو الذي قال ابن كلاب والأشعري بحدوثه، فمتعلق المذهبين مختلف، فلا وجه للمعارضة بينهما.
٢ - قوله:"فأجاب الأول أنه يوجد في الأزل صفة الخلق ولا مخلوق .... إلخ": المراد بالأول: أبو حنيفة ومن قال بقوله. وقوله:"أنه يوجد في الأزل صفة الخلق" بمعنى أن الله تعالى لم يزل موصوفًا بالخلق أي مسمى بالخالق هو الصواب؛ إذ لم يزل الرب سبحانه قادرًا على الخلق مستحقًا لهذا الاسم. وقول الأشعري بأنه لا يكون خلق ولا مخلوق كما لا يكون ضارب ولا مضروب: إن أراد أن فعل الخلق يستلزم المخلوق فصحيح، وإن أراد أن صفة الخالقية تستلزم مخلوقًا فممنوع؛ فإن القادر على الخلق خالق ولو لم يخلق، وهكذا يقال إن فعل الضرب يستلزم مضروبًا، والقادر على الضرب قد يسمى ضاربًا ولو لم يكن منه ضرب بالفعل.
٣ - قوله:"فألزموه بحدوث صفات، فيلزم حلول الحوادث بالله": حلول الحوادث في ذات الله تعالى من الألفاظ المجملة المبتدعة؛ فإن أريد بنفيه نفي حلول شيء من المخلوقات في ذاته فهو حق، وإن أريد به نفي قيام الأفعال الاختيارية به فهو باطل؛ فإن الله تعالى لم يزل فعالاً لما يريد، ولا يزال يفعل ما يشاء إذا شاء، فبطل الإلزام. ولكن الأشعري يوافق على نفي قيام الأفعال الاختيارية به سبحانه، ولهذا أجاب بقوله:"إن هذه الصفات لا تحدث في الذات شيئًا جديدًا". وهو كلام ليس بسديد؛ فإذا كانت هذه الصفات حادثة، وكانت قائمة بذات الله، فقد حدث في الذات شيء جديد، وإن لم تكن قائمة بالذات فليست بصفات؛ لأن الصفة لا بد أن تقوم بالموصوف.
٤ - قوله:"فتعقبوه بأنه يلزم أن لا يسمى في الأزل خالقًا ولا رازقًا": الصواب أن هذا ليس بلازم؛ لأن القادر على الخلق والرزق يسمى خالقًا ورازقًا ولو قدر أنه لم يقع منه الفعل. وقولهم:"إن كلام الله قديم" معناه عندهم أنه لا يكون بمشيئته، وهذا لا يصح على الإطلاق، بل إنه سبحانه لم يزل يتكلم إذا شاء بما شاء كيف شاء، فكلامه قديم النوع حادث الآحاد. وقدم أسمائه سبحانه معلوم من قدم كماله. وقول بعض الأشعرية:"إن إطلاق اسم الخالق الرازق على الله قبل أن يخلق ويرزق بطريق المجاز": هذا القول باطل؛ فإن القادر على الخلق والرزق هو خالق حقيقة رازق حقيقة، كما أن القادر على الكلام متكلم وإن كان في الحال لا يتكلم. وقول الأشعري:"إن الأسامي- أي أسامي الله- جارية مجرى الأعلام ... إلخ" يقتضي أن أسماء الله تعالى لا تدل على معاني بل هي أعلام محضة، وهذا كقول المعتزلة. والصواب أن أسماء الله تعالى أعلام وصفات؛ فتتحد في دلالتها على الذات وتختلف في دلالتها على الصفات، وبهذا يعلم أن أسماء الله تعالى دالة على معانيها بالحقيقة اللغوية والشرعية، واسم الفاعل والفعال يصدق على من كان قادرًا على الفعل وإن قُدِّر أنه لم يفعل كما تقدم والله أعلم.