آخر يضبط به النطق على حال واحدة لأبوا أن يرسموا به؛ لئلا يضبط النطق على وجه واحد فتضيع سائر الأوجه، وكلها من عند الله أنزل، وكلها من لغة العرب، وكلها أذن لهم في القراءة به، وكانوا هم الأمناء على الوحي وهم الذين أمروا بتبليغ ما أنزل إليهم ما وسعهم البلاغ، ثم نقل عنهم من بعدهم من الثقات الأثبات الأمناء نقلًا فاشيًا واضحًا متواترًا، لم يجعلوا شيئًا منه سرًّا مصونًا ولا كنزًا مخفيًّا، بل هو الإذاعة بأقصى ما يستطيع الناس من الإذاعة حتى لا يكون شيء منه موضعًا لشبهة ولا معرضًا لشك ولا بابًا لزيغ.
فكان في رأي المستشرقين أن الرسم سبق القراءة، خيالًا منهم وتوهمًا، وكان عند المسلمين أن القراءة سبقت الرسم، حقًّا يقينًا ثابتًا بأوثق ما تثبت به الحقائق التاريخية.
ولم يكن للمسلمين - من أول الإسلام إلى الآن - مندوحة عن اليقين بهذا الوجه؛ إذ هو الذي لا يعقل سواه، وهو الذي تقتضيه طبيعة ما وصل إليهم من النقل والأدلة، وكانوا أعرف بأصحاب رسول الله ثم بالأئمة من العلماء والقراء الذين نقلوا إليهم العلم والدين والقرآن، من أن يظنوا بهم السوء والكذب والافتراء، وكانوا يوقنون بكفر من عمد إلى تحريف حرف واحد من القرآن بافتراء قراءة لم تنقل عن قارئه الأول - صلى الله عليه وسلم -. وها هي ذي كتب القراءات - ما نشر منها وما لم ينشر - وها هم أولاء قراء القرآن في أقطار الأرض كلهم يسوق أسانيد القراءة عن الأئمة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من روايات الثقات