رائد في الدراسات العثمانية
غلاف الكتاب
ويشير الدكتور "أحمد زكريا" -أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بآداب عين شمس- إلى أن "عبد الرحيم" كان رائدًا لاتجاه متميز في الدراسات العثمانية يعتمد على الوثائق وليس على كتابات المؤلفين المعاصرين أو القدامى؛ وهو ما عمق فكرة المنهج التاريخي في تلك الدراسات التي كاد أن يقوض دعائمها الممانعة المنهجية في دراسة التاريخ العثماني عند الكثير من دارسي التاريخ والمثقفين.
وقد بدأت المعركة بناء على نصيحة المؤرخ الراحل "أحمد عزت عبد الكريم" الذي وجه تلاميذه لإعادة النظر في دراسة مصر العثمانية والاعتماد على وثائق المحكمة الشرعية والشهر العقاري لدحض الانطباع القديم عن العصر العثماني باعتباره عصر خمول وتخلف وجمود؛ فبدأ "عبد الرحيم" برسالته عن "الريف المصري في القرن الثامن عشر" لتطبيق هذا المنهج، لتبدأ مدرسة جديدة تعمل على إعادة النظر فيما سبق من دراسات وإعادة الاعتبار لمصر العثمانية.
ويرى زملاء وتلاميذ الدكتور "عبد الرحيم"، ومن بينهم الدكتور "محمد عفيفي" الأستاذ بآداب القاهرة، والحاصل على الماجستير والدكتوراة عن الحقبة العثمانية تحت إشرافه، أن من أهم إسهاماته تعميقه لمفهوم المنهج التاريخي في البحث، وذلك برفضه العلمي لما سبق وردده كثير من الباحثين العرب من اتهامات وجهها الباحثون الأوربيون للعصر العثماني باعتباره "فترة التخلف والركود"، وهو ما يعد تبريرًا سافرًا للاحتلال الأوربي الذي تسلل إلى المنطقة في نهاية القرن التاسع عشر.
هذا ويؤرخ لبداية العصر العثماني في مصر بالعام ١٥١٧م بعد هزيمة "طومان باي" آخر سلاطين المماليك على يد السلطان سليم العثماني في موقعة الريدانية، ويرى مؤرخون أن ذلك العصر انتهى فعليا بدخول قوات الحملة الفرنسية مصر عام ١٧٩٨. ويؤكد "عبد الرحيم" من خلال دراسة وثائق ذلك العصر في مصر أن الدولة العثمانية لم تضع قيودًا على حراك السكان وانتقالهم من بلد إلى آخر ولا على ممارساتهم للأنشطة الاقتصادية والمهنية؛ وهو ما جعل الاستقرار الاقتصادي يعود إلى السوق المصرية بعد أن كان هذا الاقتصاد قد ضُرب ضربة شديدة إثر اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح ١٤٩٨. وترتب على النشاط التجاري ازدهار المواني المصرية الواقعة على البحرين المتوسط والأحمر، مثل الإسكندرية ورشيد ودمياط والسويس والقصير كما نشطت المواني الداخلية الواقعة على النيل مثل بولاق ومصر القديمة.
اهتم "عبد الرحيم" -أيضا- بالمصادر الأصلية وكتب الرحالة ووثائق القضاء الشرعي ودفاتر الالتزام وسجلات الدواوين باعتبارها مصادر من الدرجة الأولى لكتابة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لمصر العثمانية.
وكان "عبد الرحيم" يمتلك مقدرة عالية وصبرا شديدا على مقارنة المخطوطات وتحقيقها ونشرها؛ حتى لقد كانت دور النشر المتخصصة تتنافس للحصول على أحدث مصنفاته التي تميزت بلغة عربية سليمة وممتعة.
مساهمات متميزة
ولعبد الرحيم أكثر من عشرة كتب عن العصر العثماني، منها "الريف المصري في القرن الثامن عشر" الذي تم إعادة طبعه عدة مرات، وتحقيق لكتاب "الدرة المصانة في أخبار الكنانة" للأمير أحمد الدمرداش الذي يؤرخ لمصر بين ١٦٨٩ و١٧٥٥م، بالإضافة إلى "تراجم الصواعق في واقعة الصناجق" للصوالحي، فضلا عن تحقيق كتاب "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" للمؤرخ المصري الشهير الجبرتي.
وإلى جانب كتاباته المتخصصة، ودراساته المنشورة باللغة الإنجليزية، قدم للمكتبة العربية مجلدات ودراسات متعددة في التاريخ الحديث عن تاريخ العرب، والعالم الإسلامي، وإفريقيا، وأوربا، والهند، ومنطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية.
ويرى الباحث ياسر قطامش أن "عبد الرحيم" أفنى سنوات عمره في تحقيق العديد من المخطوطات النادرة التي أماطت اللثام عن فترة تاريخية كانت شبه مجهولة في تاريخ مصر في العصر العثماني وذلك بتحقيقه المدقق لكتب منها: "أوضح الإشارات" الملقب بالتاريخ العيني، و"تحفة الأحباب" ليوسف الملواني، ويوميات إبراهيم بن أبي بكر. وهي كتب ودراسات وأبحاث وصفها المؤرخون بأنها معين لا ينضب للباحثين المتخصصين في دراسة الدولة العثمانية.
كما اهتم -أيضا- بمصادر الوثائق حول المغاربة في مصر في العصر الحديث، وقد نشرت له مؤسسة "عبد الجليل التميمي للبحث العلمي والمعلومات" في تونس ضمن السلسلة السابعة من إصداراتها مجموعة من الكتب التي تضمنت مصادر وثائقية جديدة عن البلاد العربية في العهدين الحديث والمعاصر، منها "المغاربة في مصر في العصر العثماني ١٥١٧" في ١٩٨٣، والأجزاء الأربعة من "وثائق المغاربة من سجلات المحاكم الشرعية المصرية إبان العصر العثماني" التي صدرت على التوالي في ١٩٩٢، ١٩٩٤، ١٩٩٨، و٢٠٠٤، وما زال الجزء الخامس قيد الطبع.
وقد احتوت تلك الإصدارات على مئات الوثائق المستمدة من المحاكم الشرعية بالقاهرة والإسكندرية، والتي نقلت بدقة دور المغاربة الثقافي والاقتصادي والفكري في حياة مصر في أثناء الحكم العثماني، ملقيا أضواء كاشفة وجديدة حول هذا الموضوع الذي لم يحظ باهتمام الباحثين والمؤرخين.
ويشير المؤرخ التونسي "عبد الجليل التميمي" إلى حرص "عبد الرحيم" على المشاركة في أغلب المؤتمرات العالمية للدراسات العثمانية التي نظمتها مؤسسة التميمي بتونس وقد نشرت مداخلاته التي تجاوزت العشرات في المجلة التاريخية المغاربية والمجلة التاريخية للدراسات العثمانية.
وأضاف التميمي أن "عبد الرحيم" أرسى تقاليد علمية للتواصل بين مؤرخي المغرب والمشرق.