للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أ) ثقة المكلف بالله – جل وعلا – فيرضى بقضائه، ويقنع بقسمه، ولا يتهم الله في فعله، وتصرفه في ملكه، وقد كان لسلفنا الصالح في ذلك أوفر نصيب، فعاشوا حياة طيبة، وما لهم في الآخرة خير وأطيب، وثبت في الصحيحين والمسند عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – قال: مات ابنٌ لأبي طلحة من أم سليم، فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه، قال: فجاء فقربت إليه عشاء، فأكل وشرب، فقال: ثم تصنعت له أحسن ما كان تصنع قبل ذلك، فوقع بها، فلما رأت أنه قد شبع، وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيت، فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، قال: فغضب أبو طلحة، وقال: تركتني حتى تلطخت، ثم أخبرتني بابني فانطلق حتى أتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأخبره بما كان، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "بارك اله لكما في غاير ليلتكما" قال: فحملت، قال: فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في سفر وهي معه، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا أتى المدينة من سفر لا يطرقها طروقاً (١) ،


(١) الطروق: إتيان المنزل ليلا ً كما في جامع الأصول: (١/٣٧٠) ، وفي المختار: (٤١٥) "طرق": وطرق من باب دخل، فهو طارق إذا جاء ليلا ً، وفي الفتح: (٩/٣٤٠) : قال بعض أهل اللغة: أصل الطروق: الدفع والضرب، وبذلك سميت الطريق، لأن المارة تدقها بأرجلها ن وسمي الآتي بالليل طارقاً، لأنه يحتاج غالباً إلى دق الباب، وقيل: أصل الطروق: السكون، ومنه، أطرق رأسه، فلما كان الليل يسكن فيه سمي الآتي فيه طارقاً، وما حكاه الحافظ في الفتح موجود في لسان العرب "طرق": (١٢/٨٧) دون نسبة إلى أحد، ففيه: وقيل: أصل الطروق من الطرق وهو الدق، وسمي الآتي بالليل طارقاً، لحاجته إلى دق الباب.

وقد ورد نهي نبينا الأمين – صلى الله عليه وسلم – للمكلفين، عن الطروق على أهلهم الغافلين لثلاثة أسباب، فدونها يا طالب الآداب:
السبب الأول:
خشية رؤية ما تكرهه نفسه من زوجه مما هو غير محرم، كأن تكون على حالة لا تصلح فيها لمعاشرة زوجها، لما فيها من شعث ونحو ذلك، ثبت في الصحيحين وغيرهما عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – قال: كنا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – في غزاة، فلما أقبلنا – ورواية البخاري، قفلنا، أي: رجعنا إلى المدينة، وأقبلنا نحوها – تعجلت على بعير قطوف، أي: بطيء المشي، فلحقني راكب خلفي، فنخس بعيري بعنزة، أي: عصا صغيرة في أسفلها زج، كانت معه فانطلق بعيري كأجود ما أنت راء من الإبل، فالتفت فإذا برسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: "ما يعجلك يا جابر؟ " فقلت: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إني حديث عهد بعرس، فقال: "أبكراً تزوجتها أم ثيباً؟ " قال، قلت: بل ثيباً، قال: "هلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟ " قال: فلما قدمنا المدينة ذهبنا لندخل، فقال: "أمهلوا حتى ندخل ليلا ً" أي عشاءً كي تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة" قال: وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إذا قدمت فالكيس الكيس"، وفي الصحيحين أيضاً عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إذا قدم أحدكم ليلا ً فلا يأتين أهله طروقاً حتى تستحد المغيبة، وتمتشط الشعثة" المغيبة: هي التي غاب عنها زوجها، فإن حضر زوجها فهي مشهد، بلا هاء، كما في اللسان: (٢/١٤٧-١٤٨) "غيب"، والاستحداد: حلق شعر العانة بالحديد، قال ابن منظور في اللسان: (٤/١١٧) "حدد" ومنه الحديث: "كي تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة" وفي المنهاج: (١٠/٥٤، ١٣/٧١) ، وفتح الباري: (٩/١٢٣) ، والمراد: إزالة شعر العانة كيف كان، وعبر بالاستحداد، لأنه الغالب استعماله في إزالة الشعر، وليس في ذلك منع إزالته بغير الموسى، وانظر صفحة: (....) من هذا الكتاب المبارك، والشعثة: من تلبد شعرها، واغبر، وتفرق كما في اللسان: (٢/٤٦٦) "شعث" والمختار: (٣٦١) "شعث" قال الحافظ في الفتح: (١٢٣) أطلق عليها ذلك، لأن التي يغيب زوجها في فطنة عدم التزين، والكيس: الجماع، والعقل كما في اللسان: (٨/٨٥-٨٦) "كيس" والمراد: الحث على الجماع طلباً للولد فذلك مقتضى العقل كما أشار إلى ذلك الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: (١٠/٥٥) قال الحافظ في الفتح: (٩/٣٤٢) : أصل الكيس: العقل كما ذكر الخطابي، ولكنه بمجرده ليس المراد هنا، قال القاضي عياض: فسر البخاري وغيره الكيس: بطلب الولد والنسل، وهو صحيح، قال الكسائي: كاس الرجل: ولد له ولد وكيس، قال الحافظ قلت: جزم ابن حبان في صحيحه بأن الكيس الجماع، وتوجيهه على ما ذكر، ويؤيده قوله في رواية محمد بن إسحاق: "فإذا قدمت فاعمل عملاً كيساً" وفيه: قال جابر: فدخلنا حين أمسينا، فقلت للمرأة: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمرني أن أعمل عملا ً كيساً، قالت سمعاً وطاعة، فدونك، قال: فبت معها حتى أصبحت، أخرجه ابن خزيمة في صحيحه ١٠هـ ملخصاً من الفتح وانظر المسند: (٣/٣٦٢) ففيه تفسير "واعمل عملا ً كيساً" بلا تطرقهن ليلا ً عن أبي بكر بن عياش.
وانظر الحديث الشريف برواياته في صحيح البخاري – كتاب النكاح – باب تزويج الثيبات: (١٩/١٢١) وباب طلب الولد: (٩/٣٤١) ، وباب تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة: (٩/٢٤٣) بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم – كتاب الرضاع – باب استحباب نكاح البكر: (١٠/٥٤) ، وكتاب الإمارة – باب كراهية الطروق وهو الدخول ليلا ً لمن ورد من سفر: (١٣/٧١) بشرح النووي، والمسند: (٢٩٨، ٣٠٣، ٣٥٥) وسنن الدارمي – كتاب النكاح – باب في تزويج الأبكار: (٢/١٤٦) وسنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب في الطروق –: (٣/٢١٩) ، قال الحافظ في الفتح: (٩/٣٤٠) يؤخذ من الحديث كراهة مباشرة المرأة في الحالة التي تكون فيها غير متنظفة لئلا يطلع منها على ما يكون سبباً لنفرته عنها.
السبب الثاني:
خشية رؤيته من زوجته ما يكرهه مما هو محرم، وقد أمر ربنا بالستر، وحض عليه، ولا مؤاخذة على الإنسان إذا وقع أهله في الفجور والآثام، ولم يعلم بذلك من الطرق التي أذن بها الرحمن، فكل نفس بما كسبت رهينة، وبأعمالها مدينة ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – قال: "نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يطرق الرجل أهله ليلا ً لئلا يتخونهم، أو يلتبس عثراتهم"، انظر كتاب الإمارة – باب كراهية الطروق وهو الدخول ليلا ً لمن ورد من سفر: (١٣/٧١-٧٢) بشرح النووي وهي في المسند: (٣/٣٠٢) وقد جمل البخاري ذلك عنواناً لأحد أبوب النكاح فقال: باب لا يطرق أهله ليلا ً إذا أطال الغيبة مخافة أن يخونهم، أو يلتمس عثراتهم. ثم روى حديثين عن جابر – رضي الله تعالى عنهما – "كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يكره أن يأتي الرجل أهله طروقاً" و "إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلا ً": (٩/٣٤٠) بشرح ابن حجر، قال الحافظ: وهذه الترجمة – أي: ترجمة الباب وعنوانه – لفظ الحديث الذي أورده في الباب في بعض طرقه، لكن اختلف في إدراجه، فاقتصر البخاري على القدر المتفق علي رفعه، واستعمل بقيته في الترجمة. ثم ذكر رواية مسلم السابقة، وذكر أن مسلماً ساقها من رواية شعبة عن محارب كرواية البخاري، وساقها من رواية عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بالرواية الأولى لكن سفيان قال في نهاية الرواية: لا أدري هذا في الحديث أم لا: "أن يتخونهم أو يلتبس عثراتهم"، وذلك موجود في صحيح مسلم والرواية الثالثة في سنن الدارمي – كتاب الاستئذان – باب في النهي أن يطرق الرجل أهله ليلا ً –: (٢/٢٧٥) .
وهذا السبب الثاني أشار إليه الحافظ في الفتح: (٩/٣٤٠) فقال: فيقع للذي يهجم بعد طول الغيبة غالباً ما يكره، ثم بعد أن ذكر السبب الأول قال: وإما أن يجدها على حال غير مرضية، والشرع محرض على الستر، وقد أشار إلى ذلك بقوله: "أن يخونهم، ويتطلب عثراتهم" ثم دلل على ذلك بما أخرجه ابن خزيمة عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: "نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن تطرق النساء ليلا ً" فطرق رجلان كلاهما وجد مع امرأته ما يكره" وأخرجه من حديث ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – نحوه، وقال فيه: "كلاهما وجد مع امرأته رجلا ً" وحديث ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – مروي في سنن الدارمي: (١/١١٨) المقدمة – باب تعجيل عقوبة من بلغه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – حديث يعظمه ولم يوقره – ورواه أيضاً عن سعيد بن المسيب مرسلا ً، وعلق الترمذي حديث ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في كتاب الاستئذان – باب ما جاء في كراهية طروق الرجل أهله ليلا ً: (٧/٣٤٥) فقال: وقد روى عن ابن عباس.....إلخ.
وهذا السبب الثاني دلت عليه الروايات الصحيحة، وقرره الأئمة الحافظ كما تقدم، ومع هذا رده ابن العربي في عارضة الأحوذي: (١٠/١٨٠) فقال: وقد سمعت عن بعض أهل الجهالة أن معنى نهي النبي – عليه الصلاة والسلام – لهم لئلا يفتضح النساء، كما جرى لمن خالف النبي – صلى الله عليه وسلم – وهذا الذي روى لم يصح بحال، ولو صح لما كان دليلا ً على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قصده، فلا يصح لأحد له معرفة بمقاصد الشريعة، ومقدار النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يصححه ولا يجيزه ١هـ مصححاً ما في الطباعة من أخطاء، وقد علمت ثبوت الرواية بذلك، ومقاصد الشريعة توافق ذلك الثابت، فهي آمرة بستر المسلمين والمسلمات، ناهية عن التنقيب على الزلات فالحق فيما قاله الحافظ في شرح صحيح البخاري، لا ما قاله الإمام ابن العربي في شرح سنن الترمذي والله تعالى أعلم.
السبب الثالث:
خشية وقوعه في فعل ما يكرهه بسب بالتباس الأمر عليه لوجود الظلام، وعدم التحقق الكامل من رويا العيان وقد أشار الحافظ إلى هذا السبب في الفتح: (٩/٣٤١) فقال: ووقع في حديث جابر أن عبد الله بن رواحة أتى امرأته ليلا ً – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وعندها امرأة تمشطها، فظنها رجلا ً فأشار إليها بالسيف، فلما ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – نهي النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يطرق الرجل أهله ليلا ً. أخرجه أبو عوانة في صحيحه ١٠هـ والحديث في المسند: (٣/٤٥١) وفيه: أنه قدم من سفر ليلا ً فتعجل إلى امرأته، فإذا في بيته مصباح، وإذا مع امرأته شيء، فأخذ السيف، فقالت امرأته: إليك عني، فلانة تمشطني، فأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فأخبره، فنهى أن يطرق الرجل أهله ليلا ً، ورواه الحاكم في المستدرك – كتاب الأدب –: (٤/٢٩٣) ، وقال: صحيح على شرط الشيخين لكنه مرسل كما بين ذلك الذهبي.
لتلك الأسباب: نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – الرجال عن الطروق على أهلهم من النساء وكان – فداه أبي وأمي وعليه صلوات ربي وسلامه – يلتزم بذلك الخلق الكريم مع أزواجه أمهات المؤمنين – عليه وعليهن الصلاة والسلام – ففي صحيح البخاري – كتاب العمرة – باب الدخول بالعشي: (٣/٦١٩ بشرح ابن حجر، والمسند: (٣/١٢٥، ٢٠٤، ٢٤٠ عن أنس رضي الله تعالى عنه – قال: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – "لا يطرق أهله كان لا يدخل إلى غدوة أو عشية" قال الحافظ: قال الجوهري: العشية: من صلاة المغرب إلى العتمة – العشاء –، وقيل: هي من حين الزوال، قال الحافظ: والمراد هنا الأول ثم بين أن الدخول بالغداة لا يتعين، والمنهي عنه الدخول ليلا ً.
قال عبد الرحيم – غفر الله ذنوبه أجمعين – إذا منعت شريعة رب العباد، دخول القادمين من سفر على أهليهم ليلا ً لما يترتب على ذلك من الفساد، فإن قوانين الشياطين، أباحت للعتاة المفسدين، الدخول على بيوت المسلمين، في ظلام الليل دون إذن من الساكنين، وما ذاك إلا لأنهم آمنوا بالله رب العالمين، ومن العجيب أن أصحاب تلك القوانين الغوية، يرفعون شعارات الحرية، وإليك حادثة من أفعالهم المنكرة الردية –:
كسرت رجالات الأمن في بعض بلاد الحرية المزيفة – وحقيقتهم رجال الخيانة والغدر – الباب قبيل الفجر، على مؤمنة من الصالحات كانت تستحم للتتهيأ لمناجاة رب الأرض والسموات فأخرجوها من مستحمها عارية، ومثل هذا من أفعالهم المنكرة كثير وكثير، نسأل الله الكبير أن يظهر منهم الأرض إنه على كل شيء قدير.