للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بقي إلى حد التكليف سليما على أصل تلك الخلقة ولم تعقه عوائق عن ذلك من تقليد أبويه أومعلمه أو قراباته في التهود والتنصر والتمجس وغيرها.

كما أن الفصيل يخلق تام الخلقة ثم يطرأ عليه بعد ذلك الجدع والكيّ وغير ذلك مما ينقله إلى أُسمية أخرى مثل البحيرة وما جرى مجراها.

وقد تقدم أن الله تعالى أخذ الميثاق على بني آدم في العهد الأول إذ قال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: ١٧٢]، فأقروا عند ذلك بأن لهم ربا وصانعا خلقهم، ولإقرارهم بذلك فطرهم عليه بعد، فهم على تلك الفطرة حتى يطرأ عليهم من خارج ما يُنسيهم ذلك العهد من تقليد الآباء واتباع عادتهم، كما قال تعالى حكاية عن من كان هذا سبيله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: ٢٣].

وكذلك لما قال إبراهيم - عليه السلام - لقومه: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء: ٧٢] عدلوا عن جوابه فقالوا: {بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: ٧٣]. فأخبروا أن اتباعهم آباءهم وتقليدهم إياهم قادهم إلى عبادة الأوثان والكفر بالله، فكان هذا تصديقا لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه». (١)


(١) وفات المصنف أقوال أخر ذكرها ابن عبد البر وابن حجر في الفتح (٣/ ٢٤٨ - ٢٤٩):
منها: سأل أبو عبيد محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة عن معنى هذا الحديث فما أجابه فيه بأكثر من أن قال: كان هذا القول من النبي - عليه السلام - قبل أن يؤمر الناس بالجهاد. ... =
= قال أبو عبيد: كأنه عنى أنه لو كان يولد على الإسلام فمات قبل أن يهوده أبواه مثلا لم يرثاه، والواقع في الحكم أنهما يرثانه، فدل على تغير الحكم.
وقد تعقبه ابن عبد البر وغيره.
قال ابن حجر: وسبب الاشتباه أنه حمله على أحكام الدنيا، فلذلك ادعى فيه النسخ، والحق أنه إخبار من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما وقع في نفس الأمر ولم يرد به إثبات أحكام الدنيا. انتهى.
ومنها: إن الله قد فطرهم على الإنكار والمعرفة وعلى الكفر والإيمان، فأخذ من ذرية آدم الميثاق حين خلقهم فقال ألست بربكم؟ قالوا جميعا: بلى. فأما أهل السعادة فقالوا بلى على معرفة له طوعا من قلوبهم.
وأما أهل الشقاء فقالوا بلى كرها لا طوعا.

قال ابن عبد البر في التمهيد (١٨/ ٨٤): قالوا: وتصديق ذلك قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً}، قالوا: وكذلك قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ} [الأعراف: ٢٩ - ٣٠].
قال المروزي: وسمعت إسحاق بن إبراهيم يعني ابن راهويه يذهب إلى هذا المعنى، واحتج بقول أبي هريرة: اقرءوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: ٣٠].
قال إسحاق: يقول لا تبديل لخلقته التي جبل عليها ولد آدم كلهم يعني من الكفر والإيمان والمعرفة والإنكار ... انتهى.
قال ابن حجر في الفتح (٣/ ٢٥٠): وتعقب بأنه يحتاج إلى نقل صحيح، فإنه لا يعرف هذا التفصيل عند أخذ الميثاق إلا عن السدي، ولم يسنده، وكأنه أخذه من الإسرائيليات، حكاه ابن القيم عن شيخه.
وقال آخرون: الفطرة هي البداءة التي ابتدأهم الله عليها أي على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاء وإلى مايصيرون إليه ثم البلوغ.
قالوا: والفطرة في كلام العرب البداءة والفاطر المبتديء.
قال ابن عبد البر في التمهيد (١٨/ ٧٩): قال أبوعبد الله بن نصر المروزي: وهذا المذهب شبيه بما حكاه أبو عبيد عن عبد الله بن المبارك، أنه سئل عن قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مولود يولد على = = الفطرة»، فقال: يفسره الحديث الآخر حين سئل عن أطفال المشركين فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين».
قال المروزي: ولقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول ثم تركه.
قال أبو عمر: ما رسمه مالك في الموطأ، وذكره في أبواب القدر فيه من الآثار ما يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا، والله أعلم.
ثم قال ابن عبد البر (١٨/ ٩٣): وقال آخرون: الفطرة ما يقلب الله قلوب الخلق إليه مما يريد ويشاء، فقد يكفر العبد ثم يؤمن فيموت مؤمنا، وقد يؤمن ثم يكفر فيموت كافرا، وقد يكفر ثم لا يزال على كفره حتى يموت عليه، وقد يكون مؤمنا حتى يموت على الإيمان، وذلك كله تقدير الله وفطرته لهم. انتهى.
ومنها قول بعضهم: إن اللام في الفطرة للعهد أي فطرة أبويه.

<<  <  ج: ص:  >  >>