وحينما يثير الغزاة في العرب عواطف القومية العربية، يرجعون بهم إلى العصور الجاهلية المتخلفة عن كل ركب حضاري ومدني، متجاوزين بذلك جميع العصور الإسلامية الذهبية، التي قاد فيها العرب المسلمون الفتح الديني والحضاري، منذ ظهور الإسلام، الذي صنع فيهم ذلك الانقلاب الحضاري التاريخي، فبدد ظلمات الجاهلية بنور العلم والمعرفة والأخلاق والحضارات الإنسانية الراقية.
ولكن الغزاة إذ يتظاهرون بالدعوة إلى القومية العربية، لتقف صفاً واحداً في مواجهة القوميات الإسلامية الأخرى، يظلون في حالة تخوف من وحدة الشعوب العربية، حتى مع الرجع الجاهلي، لأنهم يخشون أن تظل هذه الشعوب على صلة بمصادر الدين الإسلامي، وتاريخ المسلمين وعلومهم، فكان لا مندوحة لهم من سلوك خط السير الآخر، بعد أن رأوا أنهم قد فصلوا المسلمين من العرب عن سائر الشعوب الإسلامية، تحت ستار القوميات، وذلك بأن يتابعوا التجزئة، فيجزئوا الشعوب العربية إلى قوميات أصغر وأقل تجميعاً عددياً من القومية العربية، بإثارة قوميات تاريخية قديمة لدى سكان الأقاليم العربية، وبالتنقيب عن العظام النخرة في مقابر القرون الأولى.
فإذا ظهروا في مصر دغدغوا في المصريين العواطف الفرعونية، وأحيوا بينهم تاريخ رمسيس، وبناة الأهرامات، وأمجاد القرون الأولى السابقة للإسلام، وزعموا لهم أن العامية المصرية ذات جذور قديمة لا صلة لها بالعربية الفصحى، وأن تقدمهم الحضاري الآن متوقف على إحياء كل ما له صلة بالآثار الفرعونية، من علوم وآداب وفنون، ونصحوهم بأن يهجروا العربية الفصحى، وبثوا بينهم من يحمل هذه الدسائس، وأرادوا أن يحمل حزب مصر الفتاة مثل المهمة التي حملها من قبل حزب تركيا الفتاة وجمعية الاتحاد والترقي، إلا أن معظم جهودهم قد كانت تبوء بالفشل عن تحقيق كامل الغاية المرسومة، ولا تعطيهم كامل الثمرات التي يرجونها، بفضل قادة الدفاع الذين تصدوا لفضح مؤامرات الغزاة، على اختلاف العوامل المحرضة لهم على ذلك، فكان منهم عوامل دينية، واحتل أصحابها صف الدفاع الأول، وكان منها عوامل عربية، واحتل أصحابها صف الدفاع الثاني