ذكر سبحانه ما سلكه فرعون كما يسكله أيّ طاغية من طواغيت هذه الدنيا الذين يظهرون في كل زمن، وفي أرض كأرض مصر، وناس كناسها، كما أشار إلى أنه عمل على تفريق جمعهم وتشتيت أفكارهم، وصاروا متفرقين في ذات نفوسهم ولا تجمعهم جامعة حق ولا ثورة على ظلم، بل كان يقول لهم في استكبار:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} ويقول في استنكار: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[القصص: ٣٨] .
وقد قال تعالى فيما سلكه:{وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} وهنا نجد كلمات ثلاثًا، كل واحدة منها تنبئ عن قصد الفرقة والانقسام بعد الوحدة والالتئام، فكلمة جعل هي بمعنى صيَّرَ، وهي تدل على أنهم كانوا متحدين في المشاعر والأحاسيس، متفقين في المنازع والمطامح والآمال، فجعلهم متفرقين منتشرين في غير اجتماع، تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتَّى، والكلمة الثانية "أهلها" فهم كانوا قبلها أهلًا، أي: إنهم كانوا مجتمعين غير منقسمين، فلكي يعلو عليهم أجمعين فرَّق جمعهم وشتَّت شملهم، فكيف يعلو إنسان مهما يكن طاغوته ومهما تكن قوته وغلظته وحيلته على قوم متحدين مجتمعين، ولكنه يخذل بينهم، ثم يملك عليهم.
والكلمة الثالثة كلمة "شيعًاط، فإنَّ الشياع يتضمَّن معنى الانتشار، وأن يقوى جزء على الآخر، يحسب كل جزء منهم أنه أقوى من الآخر، وأنه لا تربطه به رابطة، ولا يجمعهم به قومية أو رحم، أو تشابك المصالح، ودفع المضار، فإذا كانوا كذلك استعلى واستكبر، ولا يجد من يرده عن غيه، ويقمعه في شره، فيكون الهلاك، وتقطع الأسباب.
وإن النتيجة التي تكون أثرًا لذلك أن يجعل من طائفة منهم بطانة له، وجندًا يستنصر بهم ويتخذهم أسواطًا يضرب بها غيرهم، ويتحكم في جمعهم، ولذلك قال تعالى في ذكر هذه النتيجة الحتمية التي تتبع التفرق تبعية المسبب لسببه، والنتيجة للمقدمة:{يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} أي: يصور طائفة منهم ضعفاء، أو يطلب ضعف طائفة منهم، ويتتبعه، وهنا إشارة بيانية رائعة لا تكون إلا في القرآن الكريم، وهذه الإشارة هي أنه ذكر الطائفة المستضعفة، ولم يذكر الطائفة التي جعل فيها قوته يضرب بها رقاب الناس، والسبب في أنه تعالى لم يذكرها موصوفة بالقوة؛ لأنها وإن لبست لبوس القوة ليست -في حقيقة أمرها- قوية في شيء؛ لأنها ليس لها اختيار فيما اختارت؛ ولأنها لا تملك من أمرها شيئًا، بل مسخَّرة لطغواه، مراده له، وليست بمريدة فيما تفعل، والقوي هو الذي يفعل ما يريد هو لا ما يريده غيره، ويعمل ليرضي شهوة نفسه لا ما يرضي غيره، وليس هو من تكون إرادته فانية في إرادة غيره، قد لبس جلد النمر، وما هو إهابه، وإذا كانت الطائفة المستضعفة إيذاؤها بدني مادي، فهؤلاء الذين ظهروا بمظهر القوة إيذاؤهم معنوي، وهو فناء إنسانيتهم وإرادتهم وتفكيرهم، وكل مكونات