١٤٩- ذكرنا فيما أسلفنا من قول بعض ما سلكه القرآن، وما يعمد إليه من استدلال وما يتخذه من ينابيع، وقد كانت لإثبات الحقائق في العقيدة والأحكام وما يقربها به إلى العقول حتى لا يكون موضع ارتياب لمرتاب، يزيل الريب بالحقائق، ويبدد الأوهام بالأدلة التي تنبه إلى حقائق الوجود.
وما كان ذلك للجدل من المخالفين من مشركين وأهل كتاب فقط، بل كان لإثبات الحقائق في ذاتها، من غير محاجة مع منكر، ولا مجادلة مع جاحد، والآن نتكلم في جدله مع المجادلين، وقطعه الطريق على الجاحدين.
وقبل ذلك نتكلم في مقام الاستدلال القرآني، سواء أكان في مقام تثبيت وبيان، أم في مقام جدل مع قوم خصمين.
ولقد لاحظنا في أدلة القرآن أنها قريبة التناول في الإدراك لكل الناس، يفهمها الخاصة ويفهمها العامة، وأنَّ تفاوت الفهم بمقدار الإدراك، وسعة الأفق، وهي واضحة للجميع، ولقد قرَّر بذلك ابن رشد الفيلسوف الفقيه في كتابه فصل المقال، فقد قسَّم الطرق لإثبات صدق القضايا والتصديق بها إلى عامَّة لأكثر الناس؛ بحيث يكون التصديق بها من كل الناس ما داموا قد سلمت عقولهم من الآفات، ومنها ما هي خاصة بأقل الناس وهي البرهانية، وجعل الأدلة التي تعم الناس الأدلة الخطابية وتقوم على إثبات الحق بأدلة قطعية، أو أدلة ظنيَّة، ولكن بكثير منها ومقارنتها، وإثارة الخيال يجعل السامعين يقتنعون ويجزمون. وإذا كانت الأدلة في ذاتها مجردة عمَّا أحيط بها من عرض، وأسلوب بياني، وإلقاء مؤثر، وإثارة للأخيلة الموجهة، تكون ظنية، ولكن آثارها قطعية كما نرى في آثار البلغاء من الخطباء، والخطابية أعمّ أنواع الاستدلال في البيان، وأكثرها إنتاجًا، ودونها في العموم الجدلية، وهي ما يكون الاستدلال فيها مأخوذًا مما يسوقه الخصم من الحجج، وهي تعتمد على قوة الاستدلال على الخصم، ولأن الفلج على الخصوم لا يكون أمرًا مستورًا، بل يكون أمرًا له صفة الشياع بين