١٩- كانت الفتنة قد بلغت ذروتها وخبَّ فيها الذين يؤيدونها ووضعوا، وكان قد دخل في الإسلام الذين يريدون أن ينتقموا منه لدولهم التي غزاها نور الإسلام، وانفتح في قلوب الأكثرين باب الهداية، ووجدوا في القرآن السبيل إلى ما أرادوا أن يهدموه وهو الإسلام، ليقتلعوه من جذوره، ويأتوه من قواعده، فجاءوا من القرآن عماده ونور الله المبين وحبله المتين.
وكان السبيل إحياء الأحرف التي نُسِخَت، فاندسُّوا بين المسلمين يحيون المقبور، ويروجون المهجور، ويبثون روح الشك والريب فيما هو متواتر ثابت.
وقد انبرى لهم ذو النورين، واجتثَّ شرهم، فجمع المصحف الإمام على الطريق المأمون الذي كان مستوثقًا غير متظنّن، ومتأكدًا غير متشكك، فكان ما كتب في عهده هو عين ما كتب في عهد الشيخين أبي بكر وعمر، وما كتب في عهد الشيخين هو عين ما أملي في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم، وما حفظه أصحابه في صدورهم.
حتى إذا تمَّ له ما احتسبه عند الله على ملأ من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين شاهدوا وعاينوا واتبعوا عن بينة، وفيهم الكثيرون ممن حفظوا القرآن كله كعليّ -كرَّم الله وجهه، ومعاذ بن جبل، فكان التواتر الكامل والصيانة الكاملة والاستحفاظ على كتب الله تعالى.
فلم يبق إلَّا أن يزيلوا غيره من المصاحف؛ لأنها كتبت بغير حرف قريش أو به وبحروف أخرى، فأحرقها جميعًا، ولم يبق إلَّا المصحف الإمام وما نُسِخَ منه، فلا يرجع إلى سواه، ولا يعتمد على غيره، ولو بقيت مصاحف غيره لكان الاحتجاج بها، ولعادت الفتنة جذعًا، وكان التشكيك والريب، وقد حفظ الله تعالى كتابه.
حرق عثمان المكتوب كله، ولم يبق منه شيئًا، وردَّ إلى السيدة أم المؤمنين حفصة المصحف الذي كان مودعًا عندها، والذي كان إمامًا لمصحف عثمان، كما قرَّر بحق ابن جرير الطبري، وقد ردَّه إليها لموعدة وعدها إياها فوفَّى بوعده، ولكنّها لما توفيت أمر عبد الله بن عمر أن يحرق المصحف الذي كان عندها، وروي أنَّها توفيت -رضي الله عنها- في عهد معاوية بن أبي سفيان، وأن الذي حرق المصحف الذي عندها