١٨٢- علم الحلال والحرام في الإسلام مصدره القرآن، وهو الشريعة العملية، والأحكام التكليفية، وما من أمر شرع بالسنة إلَّا كان مرجعه إلى القرآن، فهو كليّ هذه الشريعة، حتى لقد قال العلماء: إنه لا يوجد حكم شرعي إلَّا كان له أصل في القرآن، والسنة النبوية الكريمة بينته أو شرحته، ولقد طار بعض الملحدين بهذه الحقيقة، وزعموا أنه يمكن الاستغناء بالقرآن عن السنة، وذلك من هو الافتيات على الحقائق؛ لأن السنة مبينة القرآن كما قال تعالى:{بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل: ٤٤] ، وكما قال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}[النساء: ٦٥] .
فإهمال السنة والاقتصار على الكتاب ضلال مبين أو تضليل أثيم، إنما هما يتعاونان في بيان أحكام الشريعة، والسنة تفصيل لما أجمل الكتاب، وتوضيح لما عساه لا تدركه الأفهام.
أمر الله تعالى بالصلاة ولم يذكر أركانها ولا شكلها، وترك للنبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- بيانها، فبينها بالعمل، وقال:"صلوا كما رأيتموني أصلي"، وتضافرت بذلك الأخبار عن النبي -صلى الله عليه وسلم، وصار العلم بالأركان والكيف من أصول الدين، والعلم بها ضروري، من أنكره فقد أنكر شيئًا علم من الدين بالضرورة، فهو كافر، وكذلك الأمر في الزكاة، ذكرت مجملة وبيَّنَها النبي -صلى الله عليه وسلم، وطبَّقها وجمعها، حتى أنَّ من ينكرها يخرج عن الإسلام.
١٨٣- وقد ذكر القرطبي أنَّ من أوجه إعجاز القرآن علم الحلال والحرام فيه، وقد وافقناه على ذلك تمام الموافقة؛ وذلك لأنَّ ما اشتمل عليه القرآن من أحكام تتعلق بتنظيم المجتمع وإقامة العلاقات بين آحاده على دعائم من المودة والرحمة والعدالة، لم يسبق به في شريعة من الشرائع الأرضية، وإذا وزنا ما جاء في القرآن بما جاءت به قوانين اليونان والرومان، وما قام به الإصلاحيون للقوانين والنظم بما جاء في القرآن، وجدنا أنَّ الموازنة فيها خروج عن التقدير المنطقي للأمور، مع أن قانون الرومان أنشأته الدولة الرومانية في تجارب ثلاثمائة سنة وألف من وقت إنشاء مدينة روما، إلى ما بعد خمسمائة من الميلاد، ومع أنه قانون تعهده علماء قيل أنهم ممتازون، منهم "سولون" الذين وضع قانون أثينا، ومنهم "ليكورغ" الذي وضع نظام أسبرطة.
فجاء محمد -صلى الله تعالى عليه وسلم- ومعه القرآن الذي ينطق بالحق عن الله -سبحانه وتعالى، من غير درس درسه، وكان من بلد أميّ ليس فيه معهد، ولا جامعة، ولا مكان للتدارس، وأتى بنظام للعلاقات الاجتماعية والتنظيم الإنساني، لم يسبقه سابق، ولم يلحق به لاحق.
وقد كتبنا في هذا بما فيه بيان الناس١. والآن نكتفي بالإشارة إلى موضوعات الأحكام من غير إطناب تتميمًا لأجزاء الموضوع، والتفصيل في موضعه بما كتبنا.
١ كتبنا في ذلك رسالتين إحداهما بعنوان: شريعة القرآن دليل على أنه من عند الله، ورسالة الملكية بالخلافة في الشريعة والقانون الروماني، وقد طبعهما مجلس الشئون الإسلامية وترجمهما.