١٠٥- انتهينا إلى أن التشبيه في القرآن ليس هو مقياس البلاغة، لأن البلاغة القرآنية العالية كما تكون في حال التشبيه والاستعارة والمجاز، تكون أيضًا في الكلام الخالي من كل هذا، وأخص ما يكون ذلك في آيات الأحكام، وقد يكون في القصص والاستدلال، وغير ذلك مما نعرض له، وقد تلونا آيات من آيات الأحكام، وجدنا فيها النص الكريم في حقائقه، وفي بعده عن كل المحسنات البديعية أعلى من كل كلام، وهو بديع في ذاته من غير حاجة إلى البديع الصناعي، أو الاصطلاحي، فإنه فوق قدر البشر، وفوق ما يصطنعه البشر، وما يصطلح عليه العلماء، وإنه يتعلم منه، وإن كان لا يحاكي، ويؤخذ منه، وإن كان الوصول إلى مقامه غير ممكن.
لقد ذكر الرماني في رسالته "النكت في إعجاز القرآن": "التشبيه: هو العقد على أن أحد الشيئين يسد مسد الاخر في حس أو عقل، وإن ذلك التعريف يضع المشبه والمشبه به في مرتبة واحدة، وإني لا أرى ذلك، ولا يراه علماء البلاغة الذين جاءوا بعد أبي الحسن الرماني المتوفى سنة ٣٨٦هـ- فإنهم يعرفونه بأنه جعل أحد الشيئين في مقام الشيء الاخر لأمر مشترك بينهما. وهو في ثانيهما أقوى مظهرًا أو أبين مخبرًا، كما تقول على كالأسد في الشجاعة، فهو في الأسد أظهر، ولا يمكن أن يقال: "إن أحدهما يسد مسد الآخر، صورة ومعنى".
ولنترك التعريف مع رأينا فيه، ولننظر في قوله من بعد، فهو يقول: "وهذا الباب يتفاضل فيه الشعراء، وتظهر فيه بلاغة البلغاء، وهو على طبقات في الحسن، فبلاغة التشبيه الجمع بين شيئين بمعنى يجمعهما، والأظهر الذي يقع فيه البيان بالتشبيه على وجوه" ويذكر وجوه التشبيه وأنواعه فيقول في ذلك:
"منها إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة، ومنها إخراج ما لم تجر به عادة إلى ما جرت به عادة، ومنها إخراج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة، ومنها إخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما لا قوة من الصفة، فالول نحو تشبيه المعدوم بالغائب، والثاني تشبيه البعث بعد الموت بالاستيقاظ بعد النوم، والثالث تشبيه إعادة الأسجام بإعادة الكتاب، والرابع تشبيه ضياء النهار".
ولا شك أن هذه الوجوه لا تشمل كل أقسام المقسم، فهن التشبيهات ما ليس بوجه من هذه الوجوه، كتشبيه غير الواضح بالواضح، كما ترى ذلك في كثر من