٢٥٩- أجمع العلماء على أنَّ القرآن هو اللفظ والمعنى، وأن من خالف ذلك يعد قد خالف في أمرٍ عُرفَ من الدين بالضرورة، وليس المعنى وحده يُعَدّ قرآنًا؛ لأنَّ التحدي كان باللفظ والمعنى، ولمَّا تحداهم الله تعالى طالبهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وواضح أنَّ التحدي هنا باللفظ.
وأنَّ جبريل -عليه السلام- نزل على النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- بلسان عربي مبين، ولقد وصف القرآن الكريم بأنه عربي، فقال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} ، وقال تعالى:{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ، فالقرآن بلفظه ومعناه عربي، ولا يصح أن يقال عن كتابه بعض معانيه بغير العربية أنها قرآني.
ومع وضوح هذه الحقيقة البدهية التي لا تختلف فيها العقول عند أهل الإيمان، ولا تتباين فيها الأنظار، وجدّ من الناس من ادَّعى أنَّ معاني القرآن قرآن، وأنه على هذا الاعتبار تجوز ترجمة القرآن الكريم، على أن يكون المترجم قرآنًا له كل خواص القرآن، ويتعبَّد به كما يتعبّد بالقرآن الذي نزل به جبريل بلسان عربي.
بل وصل التهافت في القول إلى أن يدَّعي بعض الذين لا حرج على ألسنتهم ولا على قلوبهم أن يقول: إنَّ الذي نزل به جبريل على النبي -عليه الصلاة والسلام- هو المعنى فقط.
وذلك كله هراء من القول، وانحراف عن الدين، أو خروج عنه.
وفي وسط ذلك المضطرب كان من بين الذين يتجنَّون على القرآن من ادَّعى أن الإمام الأعظم أبا حنيفة النعمان يرى أنَّ القرآن هو المعنى فقط، وبنوا على هذا جواز ترجمة القرآن عند أبي حنيفة -رضي الله تعالى عنه وأكرم مثواه، والأصل الذي بنوا عليه دعواهم أنَّه رأى في صدر حياته طوائف من الفرس قد دخلوا في الإسلام، وقد علموا العربية، ولكنَّ ألسنتهم لم تطوع للنطق بها من غير رطانة أعجمية، بل كانت تتلوَّى في مخارج الحروف العربية، كما نجد اليوم الأعاجم الذين يعلمون اللغة العربية، ولا تطاوعهم ألسنتهم في النطق السليم بها، فسوغ أبو حنيفة لهؤلاء أن يقرأوا معاني الفاتحة بلغتهم الفارسية، وقد روي في هذا أنَّ أهل فارس في عهد الصحابة قد صعب عليهم مخاج الحروف العربية، فطلبوا إلى سلمان الفارسي أن يعبِّر لهم بالفارسية عن معاني الفاتحة ففعل، حتى لانت ألسنتهم وقرأوا القرآن باللغة العربية، وقد اشترط أبو حنيفة لجواز ذلك ألَّا يكون الشخص مبتدعًا بهذا العلم، أي: إنه يترك القراءة بالعربية مع القدرة على النطق الصحيح بها، وإخراج الحروف من مخارجها، ليقرأ معانيه بلغة أخرى فارسية أو أوربية.
وقد روي عن أبي حنيفة أنه رجع عن هذا الرأي، روى هذا نوح بن أبي مريم الجامع، وهو الذي رجَّحه الأكثرون، وأنَّ النظرة التاريخية الفاحصة تجد ترجيح هذه