١٦٢- قال الله تعالى وهو أصدق القائلين:{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}[الرعد: ٤٣] فقد جعل الله -سبحانه وتعالى- من عنده علم الكتاب وهو القرآن الكريم الذي نزل على رسوله الأمين شهادته بجوار شهادة الله -سبحانه وتعالى، وأيّ شرف أعظم من شرف علم الكتاب بعد هذا، وأيّ مقام أعلى من مقام علم الكتاب الكريم، إنه إذًا مقام عظيم، وهو مشتق من ذات العليم، ولا بُدَّ لهذا أن يكون علم الكتاب خطيرًا عظيمًا، وأن يكون كبيرًا عزيزًا، وأن يكون واسعًا بمقدار ما تتسِّع له طاقة البشر من علوم، وأن العلماء الذين تقترن شهادتهم بشهادة الله تعالى والملائكة هم العلماء بالكتاب المذكورون، الفاهمون لمراميه ومغازيه، العاملون به، فقد قال الله تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران: ١٨] فأولوا العلم الذين تقترن شهادتهم بشهادة الله والملائكة هم أولوا العلم بالكتاب، وأولوا العلم بالكتاب هم العلماء الذين ذكر الله -سبحانه وتعالى- أنه لا يخشى الله غيرهم؛ إذ قال -سبحانه وتعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر: ٢٨] .
هذه مكانة العلم القرآني كما صرَّحت العبارات السامية عن الله -سبحانه وتعالى، فما هذا العلم الذي يعلو بصاحبه لى هذا المقام الأسمى، والمنزلة العليا؟
نجيب عنه بجوابين: أحدهما فيه إجمال، والثاني فيه بعض التفصيل.
أما أولهما: فنقول: إنه علم النبوة، أي: علم الرسائل الإلهية، فإنَّ القرآن الكريم اشتمل فيما اشتمل عليه لبّ الرسالة الإلهية وهو التوحيد، وقد قال تعالى في ذلك:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}[الشورى: ١٣] ، وإنَّ القرآن ذكر كل الرسالات التي سبقته، وما لم يذكره بالبيان ذكره بالإشارة الواضحة، فقال تعالى:{مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}[غافر: ٧٨] ، وما لم يذكر قصصه مطوي في ذكر من قصّ، فالرسالة الإلهية واحدة، والحق واحد، والدعوة إليه واحدة.
ولقد صرَّح النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنَّ من يحفظ القرآن يحفظ النبوة بين جنبيه، فقال -عليه الصلاة والسلام- فيما يروي عنه الحسن البصري:"من أخذ ثلث القرآن وعمل به فقد أخذ ثلث النبوة، ومن أخذ نصف القرآن وعمل به فقد أخذ نصف النبوة، ومن أخذ القرآن كله فقد أخذ النبوة كلها"، ويروى عن عبد الله بن عمر أنه قال:"من حفظ القرآن فقد حفظ النبوة بين جنبيه"، فالقرآن فيه قبسة علم من الله تعالى.