[البعث واليوم الآخر]
١٧٤- إنَّ العالم يتنازع فيه الخير والشر، ربما يتغلّب على الخير، وفي الناس الأخيار والأشرار، وقد يغلب أهل الشر على أهل الخير، وعدل الله يوجب أن تكون العاقبة للأخيار، وأن تكون للذين أحسنوا الحسنى وزيادة، والله سبحانه جعل الخير والشر لحكمة أرادها؛ ليبتلي الإنسان إمَّا شاكرًا وإما كفروًا، ولم يخلق الإنسان عبثًا، ولم يجعله سدًى، بل إنه مسئول عن فعله إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
وإن ذلك يقتضي ألَّا تكون هذه الحياة الدينا وحدها، بل لا بُدَّ من حياة أخرى تكون للأخيار الذين لم ينتصر خيرهم في هذه الحياة، ولا تكون للأشرار الذين غلبوا الأخيار ظلمًا واعتدوا وفتنوا الناس في أمورهم.
ولذلك كانت الحياة الآخرة وبيانها من مقاصد الأديان السماوية، فلا يوجد دين سماوي إلَّا كان الإيمان بالبعث والحساب، والثواب والعقاب من أركان الإيمان فيه.
ولذلك جعل القرآن الكريم الإيمان بالغيب أول أجزاء الإيمان، فقد قال الله تعالى في أوصاف المؤمنين: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: ٣-٥] .
وترى أنَّ أول وصف للمؤمنين هو الإيمان بالغيب، فلا تستولي عليهم مادة الحياة، ولا يسيطر عليهم سلطانهم، فإن فرق ما بين الإيمان والزندقة الإيمان بالغيب، فمن حسب أنَّه لا وجود إلَّا للمادة المشاهدة المحسَّة فهو ليس بمؤمن، وليس عنده استعداد للإيمان إلَّا من رحم ربك.
وقد ختم الله -سبحانه وتعالى- أوصاف المؤمنين بقوله تعالى: {وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} ، فأوجب الإيمان بالآخرة وأكَّده بتقديم الجار والمجرور، أي: إنَّ الآخرة وحدها هي الجديرة بالإيمان، وأنَّه لا إيمان إلَّا باليقين الذي لا مجال للريب فيه، وأن رقي الإنسان في أن تكون حياته غير مقصورة على الدنيا؛ لأنَّ التكليف شرف وهو مقتضى تحمل التبعات، ولا سبيل لتحمل التبعات إلَّا أن يكون ثمَّة يوم يجري فيه الحساب والثواب والعقاب.
ولذلك وصف الله -سبحانه وتعالى- الذين لا يؤمنون بلقاء الله تعالى بأنهم الخاسرون: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: ٣١، ٣٢] .
نعم خسر الذين لا يؤمنون بالآخرة، خسروا إنسانيتهم، فقد حسبوها عبثًا ليس لها غاية، وخسروا العزاء إذا شقوا فيها، فإن الإيمان بالآخرة عزاء روحي لمن يؤمن بها فيتحمَّل شقاء الدينا لينال نعيم الآخرة، وإنهم لم يترقبوا اللقاء فلم يستعدوا بالعمل الصالح.
وقد قرَّر الله -سبحانه وتعالى- أن الإنسان يكون مخلوقًا سدًى كالهمل إن لم يكن هناك يوم آخر، حيث قال: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: ٣٦-٤٠] .