١٨١- يحلو لبعض المتفلسفين من الكُتَّاب في الماضي أن يقولوا أنَّ البعث والجنة والنار والحساب والعقاب والثواب أمور روحية معنوية، وليست أمورًا حسية، وذلك قد جاء من نقض إيمانهم بالغيب، وباطل ما يقولون وما يعتقدون، فإذا كان البعث معنويًّا للأرواح، فلماذا يعجب المشركون من أنهم بعد أن يكونوا ترابًا يعودون، فإن عودة الأرواح لا تقتضي أن يكون ذلك الاستنكار؛ إذ إن الأجساد التي صارت لا تعود، ولكان الرد عليهم سهلًا، بأن يقال لهم: إن أجسامكم لا تعود، بل أرواحكم هي التي تعود.
وإذا كان البعث ماديًّا بصريح القرآن الكريم، فإنَّ الجزاء يكون الإحياء بأرواحهم وأجسادهم، والنتيجة المنطقية لهذا أن يكون نعيم أولئك الذين بعثوا من قبورهم، نعيمًا لأجسادهم وأرواحهم، ونعيم الأجساد ماديّ لا محالة، ولذلك يجب الإيمان بأن نعيم الجنة وعذاب النار ماديان، وليسا معنويين فقط؛ لأن البعث حق، ويجب التنبه إلى أنَّ حقائق اليوم الآخر سواء أكانت معنوية أم كانت مادية لا تتسع لها لغتنا، وأيّ لغة من اللغات؛ لأنها أعلى من مستوى حياتنا، ونحن نعبِّر عمَّا هو من معايشنا، وفيما هو في طاقتنا.
ولكن تعبير القرآن عن الآخرة وما فيها هو اللغة العربية، وإن كانت أعلى مما يستطيعه البشر.
ولذلك كانت تعابير العربية لتقريبها من مألوفنا، ولكي نتسامَى إلى معرفة ما ينتظر المتقين من نعيم مقيم، وما ينتظر العصاة من عذاب مهين.
ولقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت"، وروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنَّ عبارات القرآن فيما يتعلَّق بالجنة والنار مجازية في ألفاظها.
ولكن مع إيماننا بهذه الحقائق يجب أن نقرِّر أن ما ذكر من رمان وعسل مصفى وخمر لذة للشاربين، هي مما يجوز إطلاق هذه الأسماء عليه، ولكنه نوع آخر، ليس من جنس الأنواع في حياتنا هذه، وإن كان لها اسمها، ولذا وصفت خمر الآخرة بأنهم لا يصدَّعون عنها ولا ينزفون، ولكن فيها لذة للشاربين.
هذا كلمات نقولها في ختام بحثنا عن يوم القيامة، وما يجري من بعده من حساب وعقاب وثواب.
والقرآن الكريم روضة يانعة مستمرة، فيها الحقائق عن الغيب كله بمقدار ما تذكره عقولنا ويقرب إلى أفهامنا، والحقائق كاملة في غيب الله، اللهمَّ اكتبنا من الشاهدين.