١١٧- قد تكلما في التشبيه والاستعارات، وسائر أوجه المجاز بكلام مجمل، واقتبسنا شواهد من القرآن وإن لم تكن كثيرة فإنها منيرة، وإن لم يكن فيها استقراء ففيها غناء.
ولكن لم نتعرض للكنايات في القرآن بقدر كافٍ إذا كانت الكنايات كما تدل عبارات اللغويين وعلماء البلاغة هي الدلالة على اللازم، وعادة أو عقلًا بذكر الملزوم، فكثرة الرماد كما مثلوا يلزمها كثيرة الضيفان، وطول النجاد يلزمه طول القامة، فإن الكنايات في القرآن كثيرة، ولكنها تمتاز بإرادة اللازم والملزوم، وفي ذلك كثرة المعاني مع إيجاز الألفاظ، ولنضرب على ذلك بعض الأمثال نقتبسها من كتاب الله -سبحانه وتعالى، يقول الله تعالى في وصف المتقين:
هذا وصف حسي لمشيتهم ولقائهم، يمشون غير مسرعين، ولا متباهين، بل يمشون مشيًا هينًا لا سرعة فيه ولا إبطاء، وإذا خاطبهم الحمقى لا يمارونهم ولا يجادلون، فإن المراء يخل بالوقار، وملاحاة السفهاء ليست من دأب العقلاء. هذا هو الظاهر وهو المراد، ولكن المقصود مع هذا هو وصفهم بتقوى الله وخوفه، والاطمئنان إلى عفوه، فيلتقي الخوف بتكبير الذنوب، مع الرجاء في العفو والغفران.
والمعاني الثانية ملازمة للأولى، فكان المراد ابتداء هو اللازم والملزوم في ذاته، ولكن السياق كان للثاني.
ومن الإشارات الكنائية التي أريد فيها اللازم، وذكر الملزوم كان للدلالة عليه قوله تعالى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[يونس: ٦٢] فإن ذلك الكلام السامي فيه حكم على أولياء الله المخلصين له سبحانه بأنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وذلك مراد لا ريب فيه، وذلك يلازمه أن يكونوا قريبين من ربهم، قد أخلصوا له، واستحقوا رضوانه، ومن يكون قريبًا من حبيبه، لا يخافه في مستقبل ولا يحزن فيه على ماض وقع منه، لأن المحبة تجعله قريب الرجاء في الغفران، والطمع في الرحمة، وقد بيِّنَ سبحانه الطريق لمحبة الله تعالى ونيل رضوانه، وهو التقوى، فقال تعالت كلماته:{الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ}[يونس: ٦٣، ٦٤] .
ومن كلام الله تعالى في التنزيل ما جاء عن وصية لقمان لابنه إذا قال تعالت كلماته: