١٠٢- هذا باب من أبواب تصريف القول في القرآن وضرب الأمثال به، والحقيقة في اصطلاحنا ليست مقابلة للمجاز بكل فروعه فقط، بل هي مقابلة للمجاز والتشبيه والاستعارة، وهي ضرب من ضروب المجاز، وإذا كان علماء البلاغة يعدُّون التشبيه من قبيل الحقيقة؛ إذ إن أساس الحقيقة في نظرهم أن يستعمل اللفظ فيما وضع له، والتشبيهات التي تكون بأدوات التشبيه الألفاظ فيه موضوعة في مواضعها، والمجاز الذي يقابل الحقيقة أنْ تكون الكلمة دالة على غير ما وضعت له؛ لعلاقة بين المعنى الأصلي والمعنى الذي استعملت فيه مع قرينة دالة على هذا وعدم إرادة المعنى الأصلي.
ذلك هو اصطلاح علماء البلاغة، ولا غبار عليه، ولكنَّا في مقام الإعجاز القرآني نذكر الحقيقة -غير المجاز، غير التشبيه، ونريد الحقيقة المجردة، أي: استعمال الألفاظ فيما وضعت له من غير ذكر مقابلة بين لفظ ولفظ عن طريق التشبيه الذي يجمل المعاني أو يقرّبها، أو يأتي بصورة بيانية تلتقي فيها الحقيقة مع إثارة خيال يكون كأطياف الصور.
فالحقيقة التي نطق عليها حقيقة ونحن نتكلَّم في القرآن هي ما تدل عليه الألفاظ في أصل وضعها من غير مجاز ولا استعانة بتشبيه، ولا مشاحة في الاصطلاح. ونتكلم هنا في الحقيقة والتشبيه، والاستعارة التي هي التشبيه من غير ذكر أداة التشبيه أو ما يدل عليه. وفي القرآن هذه الأمور كلها مع أنواع المجاز المرسل الذي لم تكن العلاقة فيه بين المعنى الأصلي والمعنى المجازي المشابهة بينهما.
١٠٣- إنَّ القرآن قد كان فيه التعبير بالحقيقة، وهنا نجد السكاكي يعتبر التعبير المجازي أبلغ من التعبير عن المدلولات بالألفاظ التي وضعت لها، وقد يكون ذلك في غير القرآن، ولكنه ليس على إطلاقه حتى في غير القرآن، أما القرآن فليس فيه جزء أبلغ من جزء ولا أبين، بل كل في موضعه وفي منهاجه، بلغ أقصى درجات البلاغة التي لا تسامي ولا تناهد، وليس في طاقة أحد من البشر أن يأتي بمثله.
ولا شك أنَّ بعض الموضوعات القرآنية لا يكون للمجاز أو للتشبيه فيها موضع، بل إن المجاز والتشبيه فيها يخلّ بالبلاغة فيها حتى في كلام الناس، وليس من النثر الفني فيها التشبيه إلا أن يكون للتقريب.