على تغييرها، وإذا كان الاستنكار على ما وقع توبيخًا لمن أوقعه، فالاستنكار لأمر لم يقع بظاهر الحال واستصحابها تحريض على تغييرها، وتوجيه للإتيان بها.
وإنَّ الاستفهام الذي ينطبق عليه قول بعض الكتاب في علم البلاغة، وهو: نفي النفي إثبات، يكون في مثل قوله تعالى:{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}[القيامة: ٣٧-٤٠] وترى من هذا أنَّ الاستفهام دخل على النفي فكان إنكاريًّا لنفي الوقوع، فنفى على زعمهم القائل أنَّه لم يك في نشأته من مني، أو كانوا عن ذلك في غفلة ساهين، وكانوا في حاجة إلى التذكير، والإحساس بمبدئهم، ليعرفوا منتهاهم، وإنَّ الذي أوجدهم من منيٍّ أشخاصًا ذكورًا وإناثًا قادر على إعادتهم، كما بدأهم يعودون.
فالاستنكار لجهلهم هذه الحقيقة، أو تجاهلهم، وكأنهم لا يعلمون، فاستنكر هذا عليهم فكان نفيًا مستنكرًا لحال التجاهل.
ولا شكَّ أن هذا فيه تنبيه، وفيه لوم على تجاهلهم تلك الحقيقة، وبيان أنه يجب عليهم أن يعرفوها، ليكونوا في تذكر دائمٍ بقدرة الله تعالى في تدرجهم في الوجود من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، ويعلموا بذلك قدرة الله تعالى على الإعادة.
ومن الاستفهام الداخل على النفي الذي هو من قبيل أن نفي النفي إثبات، التنبيه إلى أن النبي يصنع على عين الله تعالى، ويتولَّاه، وألا يكون في يأس من رحمة الله تعالى، ومن ذلك قوله تعالى:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[الشرح: كلها] .
فإنَّ الاستفهام هنا لإنكار الوقوع، أي: لإنكار أنَّ الله تعالى لم يشرح صدر النبي -صلى الله عليه وسلم- ليتلقَّى الوحي الذي أوحى به إليه، وإذا كان الإنكار نفيًا فالمؤدي للقول: قد شرحنا صدرك، وكان الاستفهام للنفي.
١٠١- وإننا في ختام هذا البحث من التصريف البياني في القرآن نقرر بالنسبة للاستفهام فيه، أنَّ الاستفهام باب من تصريف القول في القرآن، وفيه من أسرار الإعجاز ما فيه، فمن الاستفهام ما يكون بعبارات تتفق مع النسق العربي السليم، ولكنَّه لم يعرف بين البلغاء قبل القرآن، وإني أرى أن أكثر صيغ الاستفهام التي جاء بها القرآن غير مسبوقة قبله، وأنَّ الاستفهام كان يستعمل أحيانًا للتنبيه، وأحيانًا للاستدلال، وأحيانا للتعجّب، وأحيانًا ليوجه الأنظار إلى الكون وما فيه، وما يجري بين الناس، وأنَّ ذلك كله مما يدل على علوِّ القرآن على مستوى ما كان عليه أكبر البلغاء، وأقواهم سلطانًا في الأسلوب العربي.