٧٥- ومن المواضع التي يحسن فيها الإطناب بل التكرار أحيانًا قصص القرآن، ولا نذكره هنا من ناحية أنَّه من وجوه الإعجاز في ذاته، فلذلك موضع خاص من القول، إنما نذكره من ناحية التكرار فيه، وموضع ذلك من سرِّ الإعجاز وبلاغة القرآن التي لا تساميها بلاغة في الوجود، وإنَّ ذلك التكرار من تصريف القول الذي هو وجه من وجوه البيان القرآني الذي قصد إليه الكتاب العزيز.
لقد تكرَّرت قصص الأنبياء، فذكرت قصة نوح عدة مرات بالإطناب أحيانًا، والإيجاز أحيانًا، وذكرت عيسى عدة مرات، وذكرت قصة إبراهيم عدة مرات، وذكرت قصة موسى عدة مرات، وإنه يبدو بادي الرأي أنَّ ذلك من مكرور العقول، وفيه التكرار، فما وجه البلاغة في هذا التكرار؟
إننا إذا نظرنا نظرة فاحصة تليق بمقام القرآن ومكانته في البيان العربي، نجد أن التكرار فيه له مغزى؛ ذلك أنَّ القرآن ليس بكتاب قصص، وليس كالروايات القصصية التي تذكر الحوادث المتخيلة أو الواقعة.
إنما قصص القرآن وهو قصص لأمور واقعة يساق للعبر وإعطاء المثلات، وبيان مكان الضالين ومنزلة المهتدين، وعاقبة الضلال وعاقبة الهداية، وبيان ما يقاوم به النبيون، ووراءهم كل الدعاة للحق، فهو قصص للعبرة بين الواقعات، لا لمجرد المتعة من الاستماع والقراءة، ولذلك قال الله تعالى في آخر قصة نبي الله يوسف -عليه السلام:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[يوسف: ١١١] .
ولكي يتبين للقارئ الكريم أنَّ التكرار بتسبب تعدد العبر التي هي المقصد الأول من القصص، نذكر قصة إبراهيم وقصة موسى -عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، فإنهما ذكرتا كثيرًا في القرآن الكريم.
قصة إبراهيم:
٧٦- ذكرت قصة إبراهيم في القرآن عدة مرات؛ لتعدُّد العبر فيها، وإنَّ إبراهيم كان أبا العرب، فقصصه له مقامه عند العرب، ونذكر من قصة بعضه لا كله، فإنه ليس هذا مقام ذكره في القرآن.
أ- أول ما نذكر من قصة إبراهيم هو ما يربطه بالعرب، وما كان شرف العرب به بناء الكعبة، فقد ذكر هذا البناء الذي قام به، وعاونه فيه ابنه إسماعيل -عليهما الصلاة والسلام، وبإبراهيم وإسماعيل تشرَّف العرب بأنهم سلالتهما، وبالبيت الحرام اعتزوا، وعلوا في العرب؛ إذ كان مثابة للناس وأمنًا، وقد قال تعالى في هذا البناء الذي قام بأمر رباني: