[المجتمع المصري في عصر يوسف]
٢٣٩- ألقي يوسف في الجبِّ، وصارت حياته عرضة لكل مفترس، وقد ذكرنا آخذين مما تلونا أنَّه لم تصبه رعدة الخوف، وألقى في قلبه الاطمئنان، وألهمه الله تعالى أنه ناجٍ، وأنه سينبئ إخوته بأمرهم في وقت يكونون فيه في البأساء، وهو في السراء، ويكون هو العزيز بعناية الله تعالى وهم الأذلاء.
ولم يمكث في الجب طويلًا، بل جاء جماعة ممن يسيرون في الصحراء، وألقوا في الجب دلوهم ليستنبطوا ماء، فرأوا غلامًا استبشروا به، وكان في ذلك الزمن وما قبله وما بعده يفرض الرق على كل غريب، حتى جاء الإسلام فألغى هذا وغيره، وقد أخذوه بضاعة، وباعوه بثمن بخسٍ دراهم معدودة، ولم يكونوا راغبين في بقائه.
وقد توسَّم الذي اشتراه من مصر فيه الخير، وقال لامرأته: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا، وبذلك ربِّي في كلاءة ربه كما صنع مع موسى؛ إذ ألقاه إخوته في الجبِّ حسدًا وإيذاء، كما ألقت أمّ موسى ولدها وقد وضعته في التابوت حرصًا أو فرارًا به من الموت.
وبهذه المحبَّة التي أضفاها الله على من اشتراه مكَّن الله ليوسف في الأرض وألهمه الحكمة، وعلَّمه تأويل الأحاديث والرؤى، ولمَّا بلغ أشده آتاه الله تعالى حكمة وقدرة على الحكم على الأشياء والأشخاص، وصبرًا وإدراكًا.
آل أمره إلى أن يكون في بيت حاكم مصر، وأن يكون خازن أسراره، ومتصلًا بامرأته، على أن يكون خادمًا خاصًّا.
وهنا نجد القرآن في تلك القصة الواقعة يصور لنا نفس المرأة المترفة الفاكهة في العيش والنعيم.
رأت على القرب منها فتًى جميلًا ذا فتوة وقوة، فراودته عن نفسه، وغلَّقت الباب ونادت طبيعته البشرية، قالت له: أقبل، ولكنه في خلق النبوة يقول لها: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} فالخُلق يمنعه والوفاء يصدُّه.
ولكنها أخذت في الإغراء، وأرادت أن توقظ فيه الغريزة، ولعلها أيقظتها ولكن غلبه نور الهداية على الغريزة الدافعة؛ إذ رأى نور الحق، وهو نور ربه.
وفي هذه الصورة الواقعة صورة الحياة المترفة كيف تفسد النفوس؟ وكيف يغري بالرذيلة وجود الخدم الأقوياء في خدمة ذوات الخدر، وكيف تكون الإرادة الصابرة كابحة للغريزة الجامحة، وحائلة بينها وبين الشر.
تلك حال جديرة بالدرس على ضوء القرآن.
وتجيء من بعد تلك المعركة بين الهوى الجامح والحكمة والإرادة القوية، وهو يذهب إلى الباب فارًّا من الرذيلة، وهي تذهب وراءه تجره إليها، وتكون المفاجأة لها، وسرعان ما تكشف عن خلق المرأة وهو مسارعتها إلى اتِّهام البريء إذا لم تحقق رغبتها، بل شهوتها، فتستعدي عليه زوجها، وتثير فيه الحمية، لقد وجدا سيدها لدى الباب الذي يتسابقان إليه، هو ليفرَّ وهي لتشدّه إليها.
{قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} شكت ظلمًا وحكمت ظلمًا، ولكنه حكم ليس فيه الموت؛ لأنها ترجوه لها بعد ذلك.