وإن ذلك الإحساس الكريم الذي يتغلغل في النفس المؤمنة موضع تحسن دراسته وتعرفه، ولا شكَّ أن هذا ليس من خواصِّ الأنبياء، بل طبيعة في النفوس المؤمنة الطاهرة الملهمة من غير وحي، إنما هي الصفاء النفسي.
وإنَّ قصة إخوة يوسف مع أخيهم وأبيهم وموقف أبيهم، وهو الحامل للأسى من غير أن يقف من أبنائه موقف تنبيه للواجب الذي يتّخذ عندما تصاب الأسرة، فيكون على كبيرها أن يجمعها ولا يفرقها، ولا يذهب به فرط محبته وأساه إلى تبديل المحبة بالعداوة.
٢٣٨- نعود إلى الأولاد الذين آذوا أخاهم، ولجَّت بهم الغيرة، لقد اعتراهم الندم ابتداءً، وإن لم يظهر له أثر عملي.
ولكنَّهم علموا مقدار خطئهم عندما بلغوا أشدَّهم، أدركوا مقدار ما فقدوا من أخٍ، وإن لم يكن كإحساس أبيهم، بل إحساسهم تشوبه بقايا الغيرة، وقد تبينت عندما أحسوا بأنَّ أخاهم الثاني تسبَّب في تأخير بضاعتهم.
وإنَّ الغيرة كما نرى في كلامهم تثير النفس، فلا تندفع إلى البغضاء فقط، بل إلى الكذب، ولكنَّهم على كل حال كانوا في كبرهم يغلب عليهم حنان الأخوة، ولشدة ما كانت فرحتهم عندما علموا أنَّ عزيز مصر هو أخاهم، وقد قالوا وهم في طريقهم {نَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا} .
إن قصة يوسف في أسرته هي قصة أسرة فرَّقت الغيرة بعض عناصرها، فكانت حكمة الأب الحاني هي التي منعت المأساة من أن تسير إلى غاية من الضلال، بل وقف بها في أقصر حدودها، وهي تبيِّن كيف تعود المحبة بسيادة العقل، وفعل السن، وإثارة المودة.
وفي ذلك درس حكيم للأسر التي تصاب بمثل هذه، وفيه أيضًا دروس نفسية عميقة لمن يطلبها.