[سر الإعجاز]
٣٢- عجز العرب عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن ثابت ثبوتًا لا مجال للريب فيه، لا يرتاب فيه مؤمن ولا يجحده، ولا يماري فيه إلّا من يهمل عقله، ويسقط من حساب المفكرين، فعلى ذلك تواترت الأخبار، واتفقت الأمصار، لا فرق بين عدو وولي.
وإنَّه واضح من سياق الأخبار المتواترة أنَّ عجزهم اقترن بثلاثة أمور:
أولها: إعجابهم بعلوِّه عن أن يصل إليه أحد من البشر، ولم يحاول أحد من عقلاء المشركين أن يسفّ فيحاول المحاكاة إلّا من اتصف بالحماقة، فكانت حماقته ضعفين، أحدهما في محاولته، وثانيهما في نتائج هذه المحاولة؛ إذ جاء بلغو من القول لا يحتسب في عداد الكلام، فضلًا أن يناهد أبلغ كلام أنزله الله تعالى في البشر.
ولقد سببوا عجزهم بأنه يعلو ولا يعلى عليه، وأن له حلاوة، وعليه طلاوة، وأن أعلاه مثمر، وأسفله مغدق، وقد قال ذلك المغيرة في جمعهم، فما أنكروا عليه حكمه على القرآن الذي سمعه، ولكن أنكروا عليه أنه تحت تأثير هذا ترك جماعتهم، وكأنَّهم أقروه على الوصف الذي وصف به القرآن، ولكن أنكروا عليه الإيمان، وجحدوا بها، واستيقنتها أنفسهم كما وصفهم القرآن الكريم.
ثانيها: إنَّهم كانوا مع شكرهم واستكراه نفوسهم لعدم الإقرار به ينجذبون إليه، ويريدون أن يسمعوه؛ استطابة لما فيه من لفظ ذي نغم يجذب، وعبارات مشرقة ونظم منفرد أجمل من سمط الآلئ، ولأنهم عرفوا ميلهم إلى استماعه، وأثره في نفوسهم، تواصوا ألا يسمعوه، وأن يلغوا عند سماعه، ولكن الذين تواصلوا ذلك التواصي ذهب كل واحد منهم منفردًا، ولكن الاستخفاء استعلن عندما التقوا جميعًا، ورأوا أنفسهم مجتمعين، وليس كل منهم منفردًا، وقد علموا أن التواصي على عدم الاستماع لا جدوى فيه، فتواصوا على الجحود والإنكار، فلم يكن تواصيهم على الحق، ولكن كان على الباطل.
ثالثها: إنَّ أشدهم عنادًا كان أقربهم إيمانًا، إذا قرئ القرآن صغى قلبه إلى الإيمان، وإلى الاستجابة لداعيه، فقد سمع أبو ذر الغفاري القرآن فآمن، وسمعه أخوه أنيس فأذعن لعلوِّ بلاغته عن مستوى البشر، وسمعه جبير بن مطعم فآمن، وقرأه عمر ابن الخطاب فانخلع قلبه من الشرك وطغيانه إلى الإيمان، وأن يكون فاروق الإسلام الذي كان إيمانه فارقًا بين الاستخفاء والإعلان، بين ظهور الحق وخفوته.
إن هذه الأمور التي اقترنت بعجز العرب عن أن يأتوا بمثله دلَّت على أمرين بدهيين.
أولهما: إنَّ الأساس في عجزهم هو ما فيه من بلاغة ورنة قول، ونغمة بيان أدركوها بذوقهم البياني، وهم الذين يذوقون بأسماعهم، كما يذوق الإنسان الطعام بفمه، وأنه لم يكن عجزهم سلبيًّا، بل كان من كثيرين منهم إيجابيًّا يتبعه العمل ويقترن بالإيمان بأنه من عند الله تعالى، أي: أن وجه الإعجاز فيه أمر ذاتي فيه، وليس منعًا سلبيًّا.
الأمر الثاني: الذي تدل عليه هذه الأمور التي اقترنت بالعجز عن محاكاته، هو أن القرآن من بيانه العالي الذي لا يعالى، فيه من العلوم ما لم يكونوا يعرفونه، فيه الشرائع المحكمة التي تنظم العلاقات بين الآحاد الأقربين وغيرهم، فيه علم الميراث، وفيه علم الأحكام المختصة بالأسر، وفيه بيان خلق الإنسان من سلالة من طين، وفيه توجيه النظر إلى الكون، وما يشتمل عليه، وفيه من الحقائق ما لا يعلمه إلا اللطيف الخبير، الذي خلق فسوى، والذي أحاط بكل شيء علمًا.
وفيه القصص والعبرة، وما كانوا يعلمون شيئًا من ذلك من قبله، فيه قصة أبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام، وقصة بناء الكعبة: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: ١٢٧] ، وفيه أنباء البلاد العربية التي تعلن آثار الأقوام عمَّا أنزله الله تعالى بهم، وفيه قصة موسى -عليه السلام، وفيه قصة مريم، وترتيبها، وكيف اختصموا في كفالتها، وكيف يستخدمون القرعة بالسهام لتكون كفالتها لمن تكون السهام له: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: ٤٤] .
قرءوا ذلك وسمعوه، فكان العجز لهذه الأمور الذاتية، لا لأمور أخرى ليست من القرآن.