وكل معجزات الأنبياء إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم -سواء أكانت مادية في كونها، أم كانت متضمنة معاني روحية- كانت من النوع الذي يحسّ بالرؤية، ويكون من بعدها التأمل، وليس من النوع الذي يكون بالتأمل، ولا يدرك إلا بالتأمل، وإن كان قائمًا ثابتًا في الوجود من غير ريب، وكانت حوادث تقع، ولا تبقى، ولا يبقى منها إلا الإخبار بها، فلا يعرفها على اليقين إلا من عاينها.
٤- ولكن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم كانت من نوع آخر، لم تكن حادثة تقع، وتزول من غير بقاء لها إلا بالخبر، بل كانت قائمة تخاطب الأجيال، يراها ويقرؤها الناس في كل عصر، ونقول: إنها مناسبة لرسالة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم، لعمومها في الأجيال، ولمكانته بين الرسل، ومقامه في هذا الوجود الإنساني إلى يوم القيامة.
إن معجزات الأنبياء السابقين لا يعلم وقوعها على وجه اليقين إلا من القرآن، فهو الذي سجل معجزات نوح وإبراهيم وموسى وعيسى -عليهم الصلاة والسلام، ولولا أنه سجلها ما علمها الناس، وإذا كانت بعض الكتب القائمة اليوم ذكرت بعضها فقد ذكرته مشوبًا بأمور غير صادقة؛ كإخبارهم بأن لوطًا كان مخمورًا فوقع على ابنتيه، وما يكتب فيه مثل هذا عن بعض النبيين لا يمكن أن يكون مقبول الخبر عن سائرهم ومعجزاتهم.
ونقول: إن معجزة محمد -صلى الله عليه وسلم- كانت القرآن، لقد أجرى الله تعالى على يديه خوارق وعادات أخرى، مثل: إخباره عن بعض ما يغيب عن حسه، ومثل حنين الجذع إليه، ومثل بكاء الناقة عنده، ومثل الإسراء والمعراج، ولكن لم يتحد إلّا بالقرآن الكريم، ولم ير المشركون صرحًا شامخًا يتحداهم به سوى القرآن الكريم.
ولمذا كانت معجزة محمد -صلى الله عليه وسلم- القرآن، وما كان يرجو الاتباع إلا به، ولقد روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال:"ما من نبي إلا أوتي ما مثله آمن به البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحي به إليَّ، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوما لقيامة"، ومن هذا يتبين جواب ذلك السؤال، وهذا لأنه رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- خالدة، لأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ولا نبي بعده، فيجب أن تكون معجزته مناسبة لهذه الرسالة الخالدة الباقية التي لا يحدُّها زمان في المستقبل، بل تبقى إلى يوم القيامة، ولا تكون معجزته واقعة تنقضي وتنتهي بانتهاء الزمن الذي وُجدَت فيه، بل تبقى الحجة ما بقيت الشريعة، وذلك محقق في القرآن، فهو حجة قائمة على العرب والعجم إلى يوم الدين، وهو معجز لكل الخلائق، وذلك ما نتصدى لبعضه، والله هو المعين.
المعجزة الخالدة:
٥- تلك المعجزة الخالدة هي القرآن الذي يتحدى الأجيال كلها أن يأتوا بمثله، ولو اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، كما ذكر الله -سبحانه وتعالى- في محكم التنزيل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو حجة الله على خلقه، وحجة النبي -صلى الله عليه وسلم- في رسالته، وسجل الشريعة المحكم في بيانه، وهو المرجع عند الاختلاف، والحكم العدل عند الافتراق، وهو الطريق المستقيم المرشد عن الأعوجاج، من سلكه وصل، ومن لجأ إليه اهتدى.