[نظرات في ألفاظ القرآن]
٤٨- إن الألفاظ في ضمن الأسلوب البياني الرائع، ونعتقد مؤمنين أن كل لفظ في القرآن له معنى قائم بذاته، وفيه إشعاع نوراني يتضافر مع جملته، ويساعد بعضه بعضًا في المعاني العامَّة للأسلوب والعبارات الجامعة، وإنَّ العبارات مجتمعة يساعد بعضها بعضًا.
ولسنا نستطيع إحصاء تلك النواحي في جمال ألفاظ القرآن إحصاءً، ولكنا نضرب من الأمثال على مقدار طاقتنا، ومن غير أن نصل إلى أقصى الغاية، وإنما نسدد ونقارب، بل المقاربة فوق طاقتنا، وقد سبقنا إلى تلك المحاولة فحول البيان.
اقرأ قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: ١١٢] .
وإذا قرأنا وردَّدنا البصر كرتين، وجدنا كل كلمة في حيزها لا تفارقه، ولو فارقته لوجدناه فارغًا لا يملؤه غيرها، ولنبتدئ بالإشارة إلى ما في كل كلمة مما اختصت به.
الأولى: كلمة {آمِنَة} فالأمن معناه عدم الخوف من مغير يغير عليهم، أو عدو يساورهم ولعلَّ ذلك إشارة إلى مكَّة، أو أنَّ هذه القرية هي هي، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: ٧٦] ، فتجد في هذه الكلمة إشارة إلى نعمة ليست لغيرهم، واختصوا بها دون الناس أجمعين.
الثانية: كلمة {مُطْمَئِنَّة} فمعنى الإطمئنان يتَّصل بالنفس، فهي قد منحها الله تعالى القرار والسكون والدعة من غير ضعف، ومع هذه الدعة كان هو يقويها ويثبتها، مع ما أعطاهم الله من سلطان أدبي على العرب، وهم ملتقى اجتماعهم ومستقر شعائرهم الدينية ومقامهم الكريم الطيب، فكل هذا يشع من كلمة مطمئنة.
الثالثة: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا} فإنَّ هذا يشير إلى سهولة الحياة، وأنه لا يأتيهم كسائر العرب بانتجاع الكلأ، والتنقل في الصحراء، لا ينالون الحياة إلا بشق الأنفس، وبذوقهم في طلبهم الرزق حر الحياة وقرها.
الرابعة: كلمة {رَغَدًا} فالرغد هو الرزق الطيب المذاق المريء غير الوبيء، وهو الواسع الكثير، فهم في رزق يأتيهم سهلًا طيبًا، واسعًا مريئًا لا وباء فيه.
ولكنهم كفروا بهذه الأنعم كلها، فأي صورة بيانية أروع من هذه الصورة، وتجد الكلمات الأربع متآخية في معانيها، متلاقية في ألحانها، منسجمة في نغماتها، وكل كلمة منها تعطي صورة بيانية، فآمنة فيها صورة البلد الذي لا يساوره عدو في وسط موطن فيه يتخطّف الناس، ومطمئنة يشير إلى الاطمئنان النفسي الساكن القار كالماء الساكن الذي لا تعبث به الرياح، ويأتيها رزقها طيبًا من كل مكان، تشير إلى المكانة التجارية التي يأتيها الخير من كل بلد قاص ودان، وأن لهم رحلة الشتاء والصيف.
وإن مجموع الكلمات مع ما تشعه كل واحدة من معانٍ وصور يصور حال جماعة من الناس على هذه الأمور المجتمعة غير المفترقة، وكلها فيوض من أنعم الله تعالى، ومع ذلك تكفر هذه النعم فلا تشكر، بل تجحد الحق ولا تؤمن، وهنا تجيء الصورة الثانية من عقاب ومؤاخذة على ما ارتكبوا من كفر بأنعم الله، ونجد أن كلمة