٢٣٥- إن المتتبع لقصص الأنبياء في القرآن يجد أنه يتَّجه إلى بيان دعوة النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- الذي يذكر خبره بالتوحيد، ومنع الإشراك بالله، والإصلاح ودفع الفساد، وكيف لاقى قومه دعوته، وما احتج به من أدلة، وما ساق لهم من براهين، وأنواع المعجزات المختلفة التي أمدَّ الله تعالى بها النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- الذي يقص خبره، وما آل إليه أمر الأقوام الذين دعاهم إلى الهدى وإلى طريق مستقيم، فأبوا واستكبروا، هذا شأن القصص القرآني الذي يسوقه الله تعالى في كتابه، ولكنَّا نجد ذلك يختلف في قصة نبي الله يوسف -عليه السلام، حتى يتوهَّم القارئ لها أنَّ نبي الله يوسف ما كانت له دعوة يدعو إليها، ولا قوم يخاطبهم حتى تهجَّم المنحرفون يقولون زورًا من القول.
ولكنَّ الدارس للسورة الكريمة يجد أنها طراز آخر من القصص، وفيها كشف عن النفس في ناحية من نواحيها، ودراسة لها في علاقاتها بالمجتمع الذي تعيش فيه؛ إذ هو يوجهها، وإنَّ الدارس لها يجد فيها بيانًا للأسرة في علاقاتها بعضها ببعض، مع علاقة الآباء بالأبناء، وعلاقة الأبناء بعضهم مع بعض، وعلاقات أبناء العلات، كيف يختصمون وكيف يجتمعون، وما يؤدّي الحسد بين أبناء العلات؛ بسبب ما تثور به النفوس المئوقة، وكيف تتصور ما ليس واقعًا على أنه واقع، ثم ما يؤدي إليه الاندفاع بدافع الحسد المقيت.
ولنبتدئ بإيجاز القول في القصة من أولها: كان يوسف وأخوه الشقيق من أمّ غير سائر الإخوة، والأب الحاني يعقوب يرى كل أولاده في منزلة واحدة، ولكنه بنظره العميق الشفيق يرى في الإخوة الكبار من النظرات إلى الصغيرين ما لا يطمئن به، فيعمل على ألَّا يكون منهما ما يثير، ويؤجّج النظرات الماقتة، يرى يوسف رؤيا صادقة {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} ، فيخشى الأب الحاني أن يؤرِّث ذلك عداوة إخوته فينهاه:{لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} .
ولكن الحسد يوهم الكبار أنَّ أباهم يؤثر يوسف وأخاه بمحبته لما يكون من فضل عطف على الصغير من الإيثار:{قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} ، وهنا يصل الحسد الشيطاني إلى غايته:{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} ، ولكن الشر لا يكون موضع إجماع، فلم يكن إجماع على قتله، بل:{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} ارتضى الإخوة ذلك الحلّ الذي ينزل من القتل إلى إلقائه في الجب وهو صغير لا يعلم مآله، ولكنهم يحتالون ليأخذوه من