أبيه برضاه:{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} ، لكن الأب الكريم بإلهام الأبوة يتوجَّس خيفة على ولده ويخشى عليه السوء، ولكنه يخفي في نفسه سوء الظن بهم، أو لا يكون سوء ظن، ويذكر أنه يحزن إذا غاب عنه مستوحشًا بغيبته، فيقول:{إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} أخذوه ونفذوا ما دبَّروا وألقوه في غيابة الجب، ولكن نفس يوسف ألهمها الله بأنه سيكون الأعلى، وسينبئهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون، عادوا إلى أبيهم يبكون، قالوا:{إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} وأحسوا في أنفسهم بالظنّة تعرو أباهم، فقالوا:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ، وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} ولكن الأب بفراسته وبإلهام الأبوة ما صدقهم، بل قال لهم:{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} .
٢٣٦- هذه قصة ساقها القرآن الكريم لا لمجرَّد الاتعاظ والعبر فقط، بل فيها كشف عن النفوس يجد فيها الدارس النفسيّ مكانًا للفحص يهديه إليه كتاب الله تعالى.
"أ" فهي أولًا: تبيِّن أنَّ علاقة أبناء الأعيان وهم الأشقاء لا تماثلها علاقة أبناء العلات وهم الإخوة والأخوات من الأب من غير الأمن، وتصور الغيرة الشديدة التي تكون بين الأبناء ولو كانوا كبارًا ما داموا في ميعة الصبا، وأنَّ هذه الغيرة تدفع إلى الحسد، والحسد يدفع إلى البغضاء، ووراء البغضاء الجريمة.
"ب" وهي أيضًا تصور لنا أنَّ الأبوة الشفيقة توحي بالتظنن وبالاحتراس، فقط تظننَّ نبي الله تعالى يعقوب -عليه السلام- في أن قصَّ يوسف على إخوته خبر الرؤيا قد يدفع إلى أن يكيدوا له كيدًا، ولذا أوصاه بألَّا يخبرهم بها، وتظنن عندما أرادوا أن يخرجوا به، ولكنَّه لم يتمكَّن من منعه عنم.
وإنه إذ لم يتمكَّن من منعه عنهم أبدى مخافته من أن يأكله الذئب، وقد كانت منه هذه الكلمة، وكأنَّها كانت توجيهًا لهم ليبدوا العذر الذي يعتذرون به، فجاءوا واعتذروا بأن الذئب أكله، فمن كلامه ابتدعوا قولهم ابتداعًا.
"ج" ولكنهم جاءوا أباهم عشاء يبكون، فما سر هذا البكاء؟ ذلك أنهم إذا فعلوا فعلتهم كان فيهم بقية من شفقة، فكان هذا البكاء، كما ندم أحد ابني آدم عندما قتل أخاه.
"د" وإنَّ يعقوب -عليه السلام- لم يصدق كل التصديق قولهم، بل لم يصدق مطلقًا، واستعان بالصبر الجميل، وهو الصبر من غير أنين، وجدير أن يكون من النبيين.