ولا شك أنَّ في هذا كله توجيهات نفسية لمن يتدبّر ويعتبر ويستبصر، وكان حقًّا على الذين يدرسون مجتمع الأسرة أن يجعلوا من هذا مثابة للدرس يدرسونه ويبنون عليه، ويسترشدون به.
وإنَّ قصة أسرة يوسف لم تنته هذه النهاية، بل إنَّ الإخوة من بعد سيلتقون، وسيتعاتبون أو يتلاومون، ولقد وصل يوسف -عليه السلام- في علوِّه إلى أن مكّن من عرش مصر، فقد مكَّن الله تعالى له في الأرض يتبوأ منه حيث يشاء.
جاء إليه إخوته فعرفهم، ونسي بما أنعم الله به عليه مساءتهم، ولعله استأنس بلقائهم ولم يستوحش، ولكنه طلب أخاه شقيقه، وقال لهم:{ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ، فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ، قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} ولكن شفقة الأخوة وشفقته بأبيه وقومه تغلب طلبه، فيجعل بضاعتهم في رحالهم وهم لا يعلمون، فكانت ثمَّة محبة الأخوة، ومحبة الشقيق.
رجعوا إلى أبيهم، وفي هذه الحال كانوا صادقين:{قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، ولكن ذكراه الأليمة تتحرَّك فيقول:{هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .
ثم اكتشفوا من بعد ما جهله عليهم يوسف الصديق فتحو متاعهم فوجدوا بضاعتهم ردت إليهم:{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} ، وفي هذه المرة كان يعقوب -عليه السلام- أحرص من المرة الأولى، فأخذ موثقًا ليأتينه به إلَّا أن يحاط بهم، فآتوه موثقهم.
دخلوا مصر من حيث أمرهم أبوهم، والتقوا بأخيهم، وآوى يوسف إليه أخاه، وفاضت نفسه إليه قائلًا له:{إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .