مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ، فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} ثم وجده في وعاء أخيه، وبحكمهم أخذ أخاه وأبقاه عنده، وتحركم فيهم الحال التي كانوا فيها عندما رموا بيوسف في الجب، قالوا:{إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} وبذلك ثارت في نفوسهم الغيرة القديمة، وإذا كانت في أوّل أمرها قد دفعتهم إلى القتل، أو السير في سبيله، فقد دفعتهم هذه المرة إلى الكذب ورمي البريء بالسرقة {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} فأحسوا بالتبعة عند لقاء أبيهم، وأرادوا أن يتشفَّعوا بحال أبيهم الشيخ فقالوا:{إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} . يئسوا من أن يعودوا بأخيهم لأبيهم الشيخ، وتعرَّضوا للظنون التي لها في ماضيهم ما يؤديها، وهمّوا بالعودة، ولكن كبيرهم كان إحساسه بالتبعة أشدّ من سائرهم، فقال لهم:{أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ، وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} . عادوا إلى أبيهم وقالوا ما لقَّنهم إياه أخوهم الكبير الذي تخلَّف عنهم استحياء من لقاء أبيه، ولكن الأب الشيخ لم يطمئن إلى ما قالوا، وقال لهم:{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} .
وإن الأمر إذا تأزَّم كان من لطف الله بعباده أن يفتح نافذة من الأمل في وسط التأزم، فكانت تلك النافذة، وقال نبي الله الشيخ:{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} ، وفي وسط هذه الحال استيقظ الماضي فتذكَّر ابنه المفقود يوسف الذي لا يعلم حاله، أهو حيّ يرزق أم ميت قبر، وقد برَّح به الحزن، ويقول الله تعالت كلماته في وصف حاله:{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} . رأوا أنَّ أباهم لا يزال يذكر يوسف، ولا يني عن ذلك حتى يتلف جسمه أو يموت، وصارحوه بذلك، فقال الشيخ الجريح القلب:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .
وفي وسط هذه الغمَّة عادت إليه بارقة الأمل كما عادت أولًا، فقال بحنان الأب الشفيق:{يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} .