للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: ٩٩، ١٠٠] .

٢٣٧- لم نتتبع قصة الصديق نبي الله يوسف من وقت أن رموه في الجُبّ، وأردنا أن نربط بين أجزاء الأسرة لنعرف مقدار ما يتبيِّن من القرآن من حال النفوس في ميعة الشباب وجهالته، وما يكون منها بعد أن تسكن عواطف الغيرة، وتتوافر بواعث الرحم.

ذهب إخوة يوسف إلى أبيهم عشاء يبكون، ورجَّحنا أن يكون بكاء حقيقيًّا، وليس كدموع التماسيح كما يقولون، وقلنا: أنها انفعالة الرحم، وإن لم يكن لها أثر عملي؛ إذ كانوا يستطيعون أن يعودوا ويستنفذوه من الجبِّ الذي ألقوه فيه، ويظهر أنهم كانوا بين عاطفتين متضاربتين: عاطفة الرحم الجامعة، والغيرة الملحة الباعثة على البغضاء، فذرَفت عيونهم بالعاطفة الأولى، وأقعدتهم الثانية عن أن يزيلوا ما فعلوا، وما ارتكبوا في حق أخيهم.

ونترك أولئك الإخوة في حيرتهم، واضطراب عواطفهم، ولنتجه إلى الأب المكلوم الذي فقد ولده، فإنَّا نلاحظ فيه ثلاث عواطف، كل واحدة تجري على لسانه:

أولها: ألم الفراق الذي أصاب نفسه، لقد كان ولده الحبيب المقرّب الصغير، والصغر ذاته يجلب المحبَّة ويجعله أكثر قربًا، وآثر بالمحبة من غير أن يفقد أحد من أولاده محبته، فالحب الأبوي يقبل الاشتراك، ولكن في تفاوت بالسن، وبالقرب وبالخلق، وبالمخايل التي تدل على الانفراد بمزايا دون غيره.

والثانية: إنَّ الذين كرثوه بهذه الكارثة التي هدَّت كيانه، وجعلت عيناه تبيضان من الحزن، هم أولاده وأفلاذ كبده، فلا يمكن أن يكونوا أعداءه، ولا يمكن أن يبغضهم، لأنَّ بغضهم يكون ضد الفطرة، وتلك حال لا يصبر عليها إلَّا أولوا النفس القوية التي هي نفوس الأنبياء والصديقين، وفي الموقف الذي وقفه الشيخ من إحساسه بالألم من أولاده، مع إحساسه بعاطفته مجال للدرس والتحليل، وجَّه القرآن الكريم إليه أنظار الدارسين والفاحصين.

الثالثة: إنَّ يعقوب -عليه السلام- كان في قلبه إحساس عميق بأنه سيلقى ابنه في المستقبل، إن لم يكن في القريب العاجل ففي البعيد الآجل، فهو إذ يتهم أبناءه، ويقول لهم: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} يقول أيضًا صابرًا: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ويقول وقد غاب عنه ابنه الثاني بعد أن تباعد الزمان، وأن يكون قد غمّى على الموضوع النسيان: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف] .

<<  <   >  >>