الرواية له سبب واضح، وهي تساير الحقيقة التاريخية، وهو أنَّ أبا حنيفة الفقيه المدرك قرَّر جواز قراءة المعاني بالفارسية على أنَّها دعاء مقارب للفاتحة في معانيه، فلما لانت الألسنة ودخل الناس من أهل فارس وغيرها في دين الله أفواجًا، ورأى أنَّ المبتدعين هم الذين يتَّخذون القرآن مهجورًا، وهم الذين يستبيحون تلك الرخصة التي رخَّصها، حرَّم ما كان قد استحسن.
٢٦٠- ومهما تكن الفتوى من الناحية التاريخية فإنَّ الفقهاء اختلفوا في أصل هذه الفتوى، أمؤدَّاها أنَّ أبا حنيفة اعتبر الترجمة دعاء وليست قرآنًا، أم أنه اعتبرها قرآنًا، وهل مؤدَّى ذلك أن يكون أبو حنيفة قد اعتبر القرآن هو المعنى دون اللفظ.
ونقول في الإجابة عن هذا السؤال: إنَّ من المقطوع به أنَّ أبا حنيفة لم يعتبر القرآن الذي نزل على محمد -صلى الله تعالى عليه وسلم- هو المعنى فقط، فذلك ما لم يقله أحد من أهل الإيمان؛ لأن محمدًا -صلى الله تعالى عليه وسلم- أقرأه جبريل اللفظ، ولم يوحَ إليه بالمعنى وحده، اقرأ قوله تعالى مع ما تقدَّم:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة: ١٦-١٩] .
فهل بعد هذا النصِّ القاطع يستطيع أحد أن يدَّعي على أبي حنيفة الورع التقي أنه يقول: إنَّ الذي نزل على محمد وتلقَّاه عن جبريل الأمين -وهو روح القدس- هو المعنى فقط، إنَّ ذلك غير معقول.
وبقي السؤال الأول: هل يمكننا أن نفهم من هذا أنَّ أبا حنيفة أقرَّ قراءة القرآن بغير العربية ممن يعرف العربية، ولا يجيد إخراج الحروف من مخارجها، إنه يعتبر المعنى ذاته قرآنًا مع إقراره، بأنَّ الذي نزل على محمد اللفظ والمعنى.
نقول: إنَّ الأكثرين من الفقهاء المتقدمين والمتأخرين يقولون: إنَّ أبا حنيفة اعتبر المترجم مجزئًا للصلاة في الحدود التي رسمناها في دور من أدوار اجتهاده الفقهي، ولكنَّه لا يعد قرآنًا قط، ولذا لم يقل أنَّه تجب سجدة التلاوة بالجزء المترجم إذا كان في معنى آية لها سجدة تلاوة، وأجاز أن يمسّ غير المتوضئ الجزء المترجم، ولا حرج عليه، وتقرأ الحائض والنفساء المعنى المترجم، ولا إثم في ذلك؛ لأنَّه ليس قرآنًا.
ولذلك يقول الأكثرون من فقهاء المذهب الحنفي: إنَّ ما قرره أبو حنيفة إن هو إلا ترخص للذين لم تقوَّم ألسنتهم تقويمًا عربيًّا سليمًا، فسوَّغ لهم أن يقرءوا المعاني حتى تقوَّم ألسنتهم، وعلى أنَّه دعاء لا على أنها قرآن، ولم يعرف عنه قط أنه سوغ في غير الفاتحة.