عندئذ بدت أرهاص النبوة، ثم كانت الرسالة، وشعر بشدة التكليف؛ لأنَّه سيكون في مواجهة فرعون الذي قتل من قومه نفسًا، والتقى فرعون بطغوائه وجهله، فحسب أنَّ الله في السماء الدنيا، وأراد ان يتخذ الأسباب للارتفاع إليه، ومع جهله بالحقائق الإلهية استكبر هو وجنده، فكأنَّ الجند في جانبه، والشعب ليس في جانبه، أو هو مغلوب على أمره لا يحرك ساكنًا حيث يجب أن يتحرك، ولا يدفع ظلمًا يجب أن يدفع، ثم نزل العقاب بفرعون وجنده، فألقوا في البحر. هذه قصة موسى رضيعًا فشابًّا قويًّا، فأجيرًا فتيًّا، فمبعوثًا نبيًّا، فمجاهدًا مجالدًا، حتى أدال الله تعالى من الطاغي المتغطرس.
٧٨- جاء بعد هذا الإجمال تفصيل لما ذكر بالإجمال من الوقائع، وكان في التفصيل ذكر للنعم التي أنعم الله بها على موسى.
وأوَّل تفصيل كان في ذكر التأهب للقاء فرعون، فقد توقَّع أنه سيلقى عنتًا، وما ذكر من بعض التكرار؛ فلأنه لا بُدَّ منه ليقوى موسى على اللقاء، وليذكر بالنعم التي أنفذته سابقًا؛ ليعلم أنَّ الله تعالى معه ومؤيده ومنقذه، ذكَّره بنعمه عليه رضيعًا ثم كيف ابتدأ التكليف، ثم كيف استعان بأخيه، ثم كيف استعدَّ للقاء الرهيب؛ إذ قال:{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي، وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا، وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا، إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا، قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى، وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى}[طه: ٢٥-٣٧] ، ثم ذكَّره بعظم مِنَنِه السابقة؛ ليتأكَّد أن الله تعالى مؤيده بنصره، وليعلم أنَّه مهما يكن أمر فرعون فإن الله تعالى لن يمكنه منهما.
ثم جاء التكليف بالرسالة ومخاطبة فرعون نتيجة للآات التي ذكرها أولًا، ثم ذكرها ثانيًا؛ ليربط التكليف بها، وهذا نص التكيف الخطير:{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى، قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى، فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}[طه: ٤٣-٤٧] .
وفي هذا النص دعاهم إلى التقدُّم برقيق القول إرشادًا لسبيل الدعوة؛ إذ هي تكون بالتي هي أحسن ليلين الطاغي وليسكن الناقر، وقد أبديا لله سبحانه الخوف من أن يطغى، فوعدهما سبحانه بأنه سيكون معهما، وقد سبق القول بسابغ نعمه وصادق وعده، وكان لا بُدَّ من ذكر ذلك عند دعوتهما إلى ذلك الإقدام الخطير.