من خلفه، وإنَّه بديع في نسقه، في أعلى درجات الإبداع، وإنه كما قال الكافر الذي سمعه يعلو، ولا يعلى عليه، وأنه ذو القطوف الدانية، والجمال دائمًا.
٩٧- ومن الاستفهام ما يكون تقريرًا للواقع، وذلك يكون في الحال التي تستوجب العجب، أو توجب الاستنكار؛ إذ يكون الواقع المقرر مستنكرًا؛ لأنه ليس من صنيع أهل الإيمان، ولا مما تستسيغه الفطرة السليمة، أو تستحسنه الأخلاق الحكيمة، اقرأ قوله تعالى:{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}[الماعون: ١-٧] .
وإنَّ هذا الاستفهام التقريري الذي يؤكد الرؤية العالمة من النبي -صلى الله عليه وسلم، فإن معنى: أرأيت، لقد رأيت الذين يكذبون بالدين، وأن مجيء العبارة بطريق الاستفهام فيه تأكيد لمعنى الرؤية لأولئك الذين اتَّصفوا بهذه الصفات الغريبة التي تتماسلك فيها كل صفة مع أختها، كأنها ملازمة لها لا تفترق عنها، وكأنها منها، فالتكذيب بالدين هو صفة الجاحدين، لا يؤمنون بالحق ولا يهتدون بهديه، وأولئك دأبهم النفرة من الناس، وألَّا تكون فيهم رحمة بالضعيف، فهم يقهرون اليتيم ويذلونه ويرهقون، ويمنعون كل عون؛ إذ يمنعون الزكوات التي هي عون الأقوياء للضعفاء، وهم لا يتذكرون ربهم، ولا يدنون منه، حتى في الصلاة، وصلاتهم ويل عليهم، وليست قرية لهم، وهي محسوبة عليهم على أنَّها من السيئات، ولا تحسب لهم على أنها من القربات، وهم في أعمالهم يراءون، والرباء شرك خفي، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك.
وإن موضع الاستفهام هنا لا يغني عنه التقرير المجرد؛ لأن مؤدّى الاستفهام أنَّ المخاطب قد سُئلَ عن الرؤية مثلًا، فأاب عنها بالإيجاب، فكان تقرير الواقعة بإقرار من المسئول، فهو تقرير معه التصديق، وهو مع ذلك تنبيه إلى الصفات المرذولة التي اتصف بها أولئك الجاحدون بأصل الدين، من قهر اليتيم ومنع المسكين، والصلاة الساهية عن معنى القرب إلى الله تعالى، وهم يراءون الناس ويمنعون كل عون حقيقي.
إن هذه الآيات الكريمات فيها عدة استفهامات أولها تقريري، وهو تقرير الرؤية كأنهم سئلوا عنها، فأجابوا بالإيجاب، فكان التقرير مؤيدًا بالإقرار، وكان حكمًا مؤيدًا.