للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويسوق الرماني من أمثلة الاستعارة قوله تعالى: {وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: ٣٧] ، ويقول الرماني في ذلك: "نسلخ مستعار، وحقيقته يخرج منها النهار، والاستعارة أبلغ؛ لأن السلخ إخراج الشيء مما لابسه، وعسر انتزاعه منه لالتصاقه به، فكذلك لباس الليل".

هذا ما قاله الرماني، ولكي نتصور الاستعارة وما تضفيه من معانٍ على الحقيقة المجردة نقول: إنَّ مفردات الراغب الأصفهاني جاء فيها من مادة سلخ، السلخ نزع جلد الحيوان، وقال تعالى: {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} أي: ننزعه، ومؤدَّى هذا الكلام أن المسلوخ المنزوع هو النهار، وأنَّ الجسم الذي انسلخ منه هو الليل، ولذلك قال تعالى كنتيجة للسلخ: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} ، أي: إنا لنزع كانت نتيجته أن صار الناس في ليل مظلم، ويكون معنى الاستعارة أنَّ القرآن الكريم شبه فيه النهار بالنسبة لليل بإهاب من النور أحاط بالليل إحاطة الإهاب بالشاة مثلًا، فلما نزع كان الليل، والجامع بين السلخ والنزع، وهو الرفع لشيء ملازم محتك، ولا شكَّ أن الاستعارة أبلغ كما ذكر الرماني، ولكن ما وجه البلاغة المفضلة، نقول فيما نحسب أن الاستعارة تدل على أن الذي أحاط هو النهار، ونسلخ لا تدل على أيهما هو المحيط بالآخر، ولكن المسلوخ هو النهار، إن هذا يدل على أن النور بالنسبة للكرة الأرضية عارض من نور الشمس، ولذلك ذكر الله -سبحانه وتعالى- الشمس فقال: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: ٣٨، ٣٩] .

ومن الاستعارات الواردة في القرآن التعبير عن العلم والإيمان بالنور وعن الكفر والعناد بالظلمات، مثل قوله في أول سورة إبراهيم: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ، وقد قال في ذلك الرماني: "كل ما جاء ذكره من الظلمات إلى النور فهو مستعار، وحقيقته من الجهل إلى العلم، والاستعارة أبلغ، لما فيه من البيان بالإخراج إلى ما يدرك بالأبصار".

وإن الظلمات ليست الجهل فقط، بل هي تشمل الجهل والكفر والجحود والعصبية الجاهلية وكل ما يسيطر على الأنفس من غير سلطان من الحق ولا العقل، ولا الاتجاه إلى الحق في طريق مستقيم لا التواء فيه، ولذلك عبَّر عن الباطل بالظلمات؛ لأن له أسبابًا متكاثفة بعضها فوق بعض والنور واحد، وهو الحق وطلبه والإذعان له.

وإن الإخراج من الظلمات إلى النور نقول أنه استعارتان، إن جلعنا الاستعارة في معنى الظلمة، فاستعير لفظ الظلمة وهي حسية للجهل والكفر وتحكم الهوى والجحود؛ لأن هذه يحدث منها ضلال في طلب الحق، كما يحدث الضلال من السير

<<  <   >  >>