للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أنها ليست كخمر الدنيا، وما يذكر فيها ليس من نوع ما في الدنيا، ولا من جنسه، ولقد قال -عليه الصلاة والسلام: $"فيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".

ونحن نؤمن أولًا بأنَّ نعيم الجنة حسي وعذاب النار حسي، ونؤمن ثانيًا بأنَّ كل ذلك ليس من جنس ما هو في الدنيا، بل هو أعلى وأعظم، فكأن الألفاظ التي تقال عن ذلك مستعارة من ألفاظ الدنيا، ليمكن تقريبها إلى النفوس والأشخاص الذين لا يرون إلا المحسوس.

ثالثها: إنَّ الاستعارة تثير صورًا بيانية في الألفاظ والمعاني كالتشبيه؛ لأنها تربط بين المعاني بعضها مع بعض، وفيها نقل ألفاظ الناس من معان إلى القريب منها المتناسب معها، فوق ما يثيره من أخيلة تحلق بالتالي للقرآن في أجواء من البيان، اقرأ قوله تعالى في تصوير حال من اعتراه الندم، ولا يجد مخلصًا إلا أن يعترف قوله: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: ١٤٩] .

فالتعبير في قوله تعالى: {سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} هو استعارة في الدلالة على الندم؛ لأن النادم يحس بالسقوط، ويحس بأنه هبط، فشبه القرآن حالهم في أن الندم برح بهم بمن سقط في يده، وهو دال على سقوطه فيما لا يليق، فشبه المعنى الخاص بالندم من ألم، ومن ظهور للخطأ، أو الإحساس بالخطيئة بمن سقط في يده دليل إثمه، ولا يجد مناصًا من التخلص من جرمه، وأنَّ الصورة البيانية التي تصورها كلمة سقط، وتبين حالهم لا يقوم مقامها كلمة ندموا.

ولقد صوَّر سبحانه وتعالى حال أهل الكهف في أنهم لا يسمعون.

فقال -تبارك وتعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف: ١١] .

فإن كلمة ضرب تدل على أن الله تعالى منع السماع، كأنه غلق عليهم باب السمع، وضرب عليه، فلا يفتح سنين عددًا، وذلك يصور حالهم من أنهم لا يسمعون ما يجرى، والناس يسحبونهم أيقاظًا يحسون بما يحس غيرهم، ولقد بيِّن الرماني معنى الاستعارة هنا، فقال: حقيقة معناه، منعناهم الإحساس بآذانهم من غير صمم، والاستعارة أبلغ؛ لأنه كالضرب على الكتاب فلا يقرأ، كذلك المنع من الإحساس فلا يحس، وإنما دلَّ على الإحساس بالضرب على الآذان دون الضرب على الأبصار، لأنه أدلّ على المراد من حيث كان قد يضرب على الأبصار من غير ذهاب للبصر فلا يبطل الإدراك رأسًا، وذلك بتغميض الأجفان، وليس كذلك منع الأسماع من غير صمم في الآذان؛ لأنه إذا ضرب عليها دلَّ على عدم الإحساس من كل جارحة يصح بها الإدراك ولأنَّ الآذان كانت طريقهم إلى الانتباه، فلما ضربوا عليها لم يكن سبيل الله.

ومؤدَّى هذا الكلام أنَّ الضرب على الآذان يفيد فقد الإحساس المطلق بعمل الله، وهو غير الضرب على الأبصار؛ لأن عدم الإبصار لا يقتضي فقد الإحساس؛ إذ قد يكون غير مبصر بإغماض، ولكن الإسماع لا يفقده مع بقاء الآلة سليمة إلا بفقد الإحساس، فإذا كان الله تعالى قد ضرب على آذانهم مع بقاء الآذان سليمة، فإن ذلك لا يكون إلا بفقد الإحساس، والله على كل شيء قدير.

<<  <   >  >>