للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن الاستعارة التمثيلية ظهرت الأمثال التي تعد من جوامع الكلم، فهي ليست إلا تشبيه حال بحال، فهي تشبيه حال مضربها بحال موردها، تقول العرب: "الصيف ضعيف اللبن" فموردها أنَّ شيخًا طلب يد فتاة فردتها لكبر سنّه، وكان الزمان صيفًا، ثم احتاجت من بعد إلى قدر من اللبن عنده، فقال لها: "الصيف ضيعت اللبن" فصار مثلًا يضرب لمن يرفض أمرًا، ثم يجيء يطلب شيئًا ما كان يحتاج إليه لو لم يرفض.

وهكذا، والأمثال من أبلغ كلام العرب؛ لأنها تؤدي معانيها في أوجز لفظ، وأروع خيال.

١١٥- وإن عبد القاهر يعد طرق التعبير ثلاثة، الحقيقة، ويدخل فيها التشبيه على طريق علماء البلاغة، وقد بيَّنَّا من قبل أننا نعد الحقيقة ما لا يدخل في عمومها التشبيه، ولا مشاحة في الاصطلاح، والاختلاف لفظي.

والثاني من طرق البيان المجاز، وقد أشرنا إلى القول فيه.

والثالث من الطرق الكناية: ويعرف عبد القاهر الكناية بأنها: "أن يريد المتكلم إتيان معنى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود، فيؤتى به إليه، ويجعله دليلًا عليه، مثال ذلك قولهم طويل النجاد، "أي: طويل علاقة السيف" يريدون طويل القامة، وكثير الرماد يعنون كثير القرى، وفي المرأة نثوم الضحى، والمراد أنّها مترفة مخدومة، لها من يكفيها أمرها، فقد أرادوا في هذا كله -كما ترى- معنى، ثم لم يذكروه بلفظه الخاص به، ولكنهم توصلوا إليه بذكر معنى آخر، من شأنه أن يردفه في الوجود، وأن يكون إذا كان، أفلا ترى أنَّ القامة إذا طالت طال النجاد، وإذا كثر القرى كثر رماد القدر، وإذا كانت المرأة مترفة لها من يكفيها أمرها، ردف ذلك أن تنام إلى الضحى".

ويلاحظ في الكناية أنه لا مجاز في المعنى، واللفظ على ظاهره بادي الرأي، ولكن لا يراد ذلك الظاهر، وإنما يراد لازمه وسماه عبد القادر ردافه.

أي: إنه يفهم تبعًا له، واللزوم ليس هو اللزوم العقلي دائمًا، بل قد يكون في بعض الأحوال لزومًا عاديًّا يجوز أن يختلف، فمثلًا طويل النجاد يلزم عقلًا أن يكون طويل القامة، ولكن كثير الرماد لا يلزم لزومًا عقليًّا أن يكون كثير نار القدر، فقد يكون وقود النار لغير القدر، ونئوم الضحى قد تكون لأنها مترفة عندها من يقوم بحاجتها، وقد يكون ذلك كسلًا أو مرضَا. إلى آخره، ولكن الكثير في العادة أن يكون ذلك عن ترف.

وقد ذكرنا في الماضي مكان المجاز، بكل صوره في دلائل الإعجاز، وقد ذكر عبد القاهر مكان الكناية في الكلام البليغ فقال -رضي الله عنه: "قد أجمع الجميع على أن الكناية أبلغ من الإفصاح، والتعريض أوقع من التصريح، إلَّا أن ذلك وإن كان

<<  <   >  >>