نبينه بعد هذا من اختلال، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف، ويشملها ما نبديه من التعمل والتكلُّف والتجوّز والتعسُّف، وقد كان القرآن على طوله متناسبًا في الفصاحة على ما وصفه الله تعالى به، فقال -عز من قائل:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الزمر: ٢٣] ، وقوله تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[النساء: ٨٢] فأخبر سبحانه أن كلام الآدمي إن امتدَّ وقع التفاوت، وبان الاختلال.
وهذا المعنى هو غير المعنى الأوّل الذي بدأنا ذكره، فتأمَّل تعرف الفضل.
وفي ذلك معنى ثالث، وهو أنَّ عجيب نظمه وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين على ما يتصرف فيها من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج، وحكم وأحكام، وإعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأوصاف وتعليم، وأخلاق كريمة وشيم رفيعة، وسير مأثورة، وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها، وتجد كلام البليغ الكامل، والشاعر المفلق، والخطيب المصقع، يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور".
ثم يقول -رضي الله عنه: "وقد تأمَّلنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها على حد واحد في حسن النظم، وبديع التأليف والرصف، لا تفاوت فيه، ولا انحطاط عن المنزلة العليا، ولا إسفاف فيه إلى المرتبة الدنيا، وكذلك قد تأملنا ما تنصرف إليه وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة، فرأينا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف، وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة تفاوتًا بينًا، ويختلف اختلافًا كبيرًا، ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت، بل هو نهاية البلاغة، وغاية البراعة، فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه"١.
ويذكر الباقلاني أن من دلائل الإعجاز تفاوت كلام البلغاء في الوصل والفصل والانتقال من معنى إلى غيره، وتقريب المعاني وتبعيدها، وأن القرآن ليس فيه ذلك النقص الذي يعرو كلام البشر، ويختلف قوة وضعفًا في ضم المعاني وتفرقها، والقرآن فيذلك النمط المتسق الذي لا يجارى.
١٢١- هذه أمور تقريبية تقرِّب معنى الإعجاز ولا تحدُّه، وتذكر بعض الأسباب ولا تنقصاها، إنه ككل الأمور التي نحسّ بها ولا نستطيع تعرف دقائق أسراراها، فهو كتاب الله الذي يعلم السرّ وأخفى، ولكنَّا نقر بالعجز عن الإتيان بمثله لأننا ندرك علوه،