وما يصدر عنها من نور وضياء، وكان الانتقال من الأرض إلى السماء بتقريب في الألفاظ والمعاني، فعبَّر سبحانه عن خروج النهار من الليل بالفجر الصادق الذي يشق الظلام، فقال سبحانه:{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} ، وفي ذلك مقاربة في التعبير بين فلق الحجب والنوى، وشق النور في الظلام، ثم جعل من بعد ذلك نتيجة لهذا الإصباح أنَّ كان الليل سكنًا، ووجه الأنظار إلى الشمس والقمر، فجعلهما سبيلًا لحسبان الأيام والليالي والشهور، ثم ختم النصَّ بما يفيد أنَّ ذلك كله من حكمة الله تعالى العلي القدير، وهنا نجد المعنى واللفظ يختمان بختام من القول يدل على انتهاء هذا الجزء، ومثله في ذلك -ولكلام الله تعالى المثل الأعلى- كمثل من يصور أجزاء كل جزء منه ناطق وحده متميز بوجوده مع الاتصال الوثيق بما يليه، وقد كانا على مقربة بعضهما من بعض في نسق بياني، لا هو من السجع، ولا من الإرسال ولا الشعر، ولكنه فوق ذلك، وفيه مزايا كل واحد من هذه الأقسام مع الزيادة التي تجعل الكلام لا يطاول بيانًا.
وقد ذكر من بعد ذلك زينة السماء إذ قد زينت بالنجوم كالمصابيح للأرض يهتدي بها في ظلمات البر والبحر، وفي ذلك إشارة واضحة إلى بيان نعم الله تعالى في اليابس والماء، ففي الأرض زروع وثمار وحيوان قد سُخِّرَت لبني الإنسان، ومن البحر تستخرج حلية، وتأكل منه لحمًا طريًا، وفي السماء يهتدي بالنجوم في دجنة الليل، ويسير في البحر بالجوار المنشئات كأنها الأعلام.
وختمت الآية الكريمة بما يدل على أن إدراك هذه النعم يحتاج إلى علم وإيمان بالحق، ولا حياة لعلم بغير إيمان بالحق، ولا حياة لإيمان من غير علم، فهما متلازمان.
ثم بين سبحانه خلق الإنسان وهو كونٌ قائم بذاته في إدراكه ببصر وبصيرة، وفي أصل نشأته ما يساوي أصل الوجود كله، ولذلك قال -سبحانه وتعالى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}[الذاريات: ٢١، ٢٢] .
وإن الله ختم الآية الكريمة بما يناسب خلق الإنسان الدقيق الذي لا يدركه إلا نافذ البصيرة، فقال سبحانه:{قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} فالفقه هو العلم الدقيق العميق الذي يشق الظلام حتى يصل إلى الحقيقة.
وإننا نجد من هذا أن القرآن لا يمكن أن يوصف بأنه نثر، ولا بأنه مزدوج له فواصل، ولا بأنه سجع له قواف، ولا بأنه شعر، فليس له أوزان ولا قواف، بل هو ذو نظم اختص به من كل الكلام.