ويتكلم ابن سنان في البواعث التي بعثت الذين ينكرون أنَّ يكون في القرآن سجع، فيحمد تلك البواعث مع الإصرار على المخالفة فيقول: وأظنّ أن الذي دعا أصحابنا إلى تسمية كل ما في القرآن فواصل، ولم يسموا ما تماثلت حروفه سجعًا، رغبة في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروي عن الكهنة وغيرهم، وهذا غرض في التسمية قريب، فأمَّا الحقيقة فما ذكرناه؛ لأنه لا فرق بين مشاركة بعض القرآن لغيره في كونه مسجوعًا، وبين مشاركة جميعه في كونه عرضًا وصوتًا وكلامًا عربيًّا مؤلفًا، وهذا مما لا يخفى فيحتاج إلى زيادة في البيان، ولا فرق بين الفواصل التي تتماثل حروفها في المقاطع وبين السجع.
ويقول فارضًا اعتراضًا، ورادًا عليه، فإذا قال قائل:"إذا كان عندكم أن السجع محمود، فهلَّا ورد القرآن كله مسجوعًا، وما الوجه في ورود بعضه غير مسجوع؟ قيل: إن القرآن أنزل بلغة العرب وعلى عرفهم وعادتهم، وكان الفصيح من كلامهم لا يكون كله مسجوعًا لما في ذلك من أمارات التكلف والاستكراه والتصنع، ولا سيما فيما يطول من الكلام، فلم يرد مسجوعًا جريًا على عرفهم في الطبقة العالية من الكلام، ولم يخل من السجع؛ لأنه يحسن في بعض الكلام على الصفة التي قدمناها، وعليها ورد في فصيح كلامهم، فلم يجز أن يكون عاليًا في الفصاحة، وقد أخلَّ فيه شرط من شروطها، وهذا هو السبب، فأورد القرآن مسجوعًا وغير مسجوع".
ونحن لا نفرض احتمال التكلف في القرآن قط؛ لأنه من عند الله تعالى، ولكن نقول: هكذا أراد الله -سبحانه وتعالى- أن يكون هكذا كتابه، وإذا أردنا أن نلتمس حكمة لذلك، فهي فيما قال سبحانه:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ}[الكهف: ٥٤] فتصريف القول في القرآن كان من جماله الذي يعلو على كل البشر بأن يكون تصريف القول فيه بسجع أحيانًا إن ارتضينا مذهب السجع، أو الفواصل المتقاربة حروفها في المقاطع أحيانًا أو إطلاق الألفاظ في القرآن من غير مقاطع، مع ملاحظة أنَّ ذلك كله في أعلى درجات البلاغة التي لا يصل إليها أحد من البشر.
وابن الأثير في كتابه المثل السائر يستنكر قول الذين يذمون السجع، ويستنكر قول الذين لا يسمون ما في القرآن من اتحاد المقاطع في الحروف سجعًا، ويقول في ذلك:
"وقد ذمَّه بعض أصحابنا من أرباب هذه الصناعة، ولا أرى لذلك وجهًا سوى عجزهم أن يأتوا به، وإلَّا فلو كان مذمومًا لما ورد في القرآن الكريم، فإنه قد أتى منه.