الجمل القصار، ولا يكون إلَّا بحرف قوي يستتبع القلقلة أو الصفير أو نحوهما مما هو صروف أخرى من النظم الموسيقي.
وهذه هي طريقة الاستهواء الصوتي في اللغة، وأثرها طبيعي في كل نفس تفهمه، وكل نفس لا تفهمه، ثم لا يجد من النصوص على أي حال إلا الإقرار والاستجابة، ولو نزل القرآن بغيرها لكان ضربًا من الكلام البليغ الذي يطمع فيه أو في أكثره، ولما وجد أثر يتعدى أهل هذه اللغة العربية إلى أهل اللغات الأخرى، ولكنه انفرد بهذا الوجه المعجز، فتألفت كلماته من حروف لو سقط واحد منها أو أبدل بغيره، أو أقحم معه حرف آخر، لكان ذلك خللًا بيِّنًا، أو ضعفًا ظاهرًا في نسق الوزن، وجرس النغمة، وفي حس السمع وذوق اللسان، وفي انسجام العبارة، وبراعة المخرج، وتساند الحروف، وإفضاء بعضها إلى بعض، ولرأيت لذلك هجنة في السمع كالذي تنكره من كل مرئي لم تقع أجزاؤه على ترتيبها، ولم تتفق على طبقاتها، وخرج بعضها طولًا وبعضها عرضًا، وذهب ما بقي منها إلى جهات متناكرة".
وإن هذا الكلام يفيد فائدتين:
إحداهما: أنَّ موسيقى القرآن الكريم ونغماته هي التي استرعت أسماع العرب، واستهوت نفوسهم، ورأوا لها حلاوة، وعليها طلاوة ليست من الشعر، وإن علت على أعلى ما فيه، وليست من نوع كلامهم البليغ، وإن كانت من جنس كلامهم، وإن ذلك التأليف في النغم والجرس مع علوِّ المغزى والمعنى وإحكام التعبير ودقة الإحكام لا يمكن أن يصل إليه أحد.
وقد يقول قائل: هل هذه الأنغام المؤتلفة مقصودة في ذاتها، وهي الإعجاز؟
فنقول: إننا مهما نحاول في رد الإعجاز إلى أسباب لا نجد سببًا واحدًا بذاته هو الذي اختص بالإعجاز، بل تضافرت في ذلك الأسباب، وكل واحد منها يصلح سببًا قائمًا بذاته، ولكن نؤكد أن جرس المقاطع والحروف والكلمات والجمل، والفوزاصل، وأبعادها، كل هذا فيه إعجاز للعرب عن أن يأتوا بمثلها.
وإنَّ الدليل على أنَّ جرس الآيات القرآنية بما حوت من حروف وكلمات هو من الإعجاز أنَّ الله تعالى أمر بترتيل القرآن لا بمجرد القراءة، فقد قال تعالى:{وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} ، وبين سبحانه أن ترتيل القرآن بتعليم من الله تعالى، فقد قال تعالت كلماته:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}[الفرقان: ٣٢] .
فالله تعالى علَّم نبيه -صلى الله عليه وسلم، وهو-صلى الله عليه وسلم- علَّم أمته ذلك الترتيل، وليس الترتيل مجرَّد القراءة، إنما الترتيل قراءة منغمة تنغيمًا يظهر التناسق في الحروف والجمل والآيات ويكشف معانيها، ونغماتها، وتلك هي موسيقى القرآن.
الفائدة الثانية التي يفيدها: أنَّ إعجاز القرآن لغير العرب هو بنغمه وجرسه الموسيقي، فإنَّ الموسيقى لغة الإنسانية، وتهتز لها كل القلوب، ونحن نوافقه في اتجاهه إلى أن القرآن معجز العرب وغيرهم، ولكن لا نقصر إعجاز غير العرب على الموسيقى وحدها، بل نقول: إن ذات العبارات، وشرائعه، والعلم المبثوث فيه، وكونه من أمي لا يقرأ ولا يكتب، وقد نشأ في بلد أمي ليس فيه معهد ولا مدرسة، هذا كله فيه الدلالة على أنه من عند الله تعالى.