ثانيهما: إن الحذف في ذاته بلاغة؛ إذ إنه يعطي الكلام قوة، ويثير الخيال ليتصور المحذوف أعلى من المبين، وقد بيِّنَ ذلك في حذف الجواب في قوله تعالى:{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}[الزمر: ٧٣] .
ومن ذلك في معناه الذي يريده قوله تعالى:{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}[البقرة: ١٦٥] فإنَّ جواب لو محذوف يلقي الرهبة في النفوس، وتذهب فيه العقول كل مذهب وتقدير، ولم يذكر البلاغة في إيجاز الحذف في مثل قوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}[يوسف: ٨٢] وفي مثل قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى}[البقرة: ١٨٩] ، وقد تظهر بلاغة الحذف في قوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ؛ إذ إن في ذلك إشارة إلى شيوع القول فيها، وأن القرية كلها تكلمت، ومثل ذلك قوله تعالى:{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} ، أما قوله تعالى:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} ، فإن فيه تزكية للمتقين بجعلهم البر ذاته، وأن نفسوهم علت وزكت قلوبهم حتى صارت هي، وفي ذلك فوق هذا تصوير للمعنى قائمًا بالذين يتصفون، فيكمون محسوسًا معلومًا فيهم.
١٣٢- ويعدُّ الرماني إيجاز القصر الذي عرفه بأنه بناء الكلام على تقليل الألفاظ، وبعده أغمض من إيجاز الحذف؛ لأن الحذف فيه غامض يحتاج إلى العلم بالمواضع التي يطبق فيها، ويقول: فمن ذلك قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}[البقرة: ١٧٩] ومنه قوله تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ}[المنافقون: ٤] ومنه قوله تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا}[الفتح: ٢١] ومنه {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ}[النجم: ٢٣] وقوله تعالى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}[يونس: ٢٣] ، ومنه {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}[فاطر: ٤٣] وهذا الضرب من الإيجاز في القرآن كثير.
وهو المثل الكامل لجوامع الكلم، وجلَّ كلام الله تعالى عن أن يكون له مثيل، ونلاحظ أنَّ الأمثلة التي ساقها تتصل بكلام قبلها، فليست منقطعة، فهي إمَّا أن تكون حكمة أو أعلى من حكمة أو قضية مستقلة مؤيدة للحكم الذي سبقها، مبينة حكمته، كقوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فهي ختام آية القصاص، التي يقول الله تعالى فيها:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: ١٧٨، ١٧٩] .