-كرَّم الله وجهه- مصحف، وقد نقل ابن النديم في الفهرس أنَّه كان على حسب ترتيب النزول، وأنه ابتدأ بقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: ١، ٢] ، وهي أوَّل آية نزلت.
ولكن في العرضة الأخيرة من جبريل كان على هذا الترتيب، البقرة ثم آل عمران على ما والاها.
ولقد جاء في "الجامع الكبير" للقرطبي ما نصه: "ذكر ابن وهب في جامعه قال: سمعت سليمان بن بلال يقول: سمعت ربيعة يسأل: لم قدِّمت البقرة وآل عمران، وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة، وإنما نزلتا بالمدينة؟ فقال ربيعة: قد قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه، وقد اجتمعوا على العلم بذلك، فهذا مما ينتهي إليه".
قال ابن مسعود: "من منكم كان متأسيًا، فليتأسَّ بأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا، وأحسنها حالًا، اختارهم الله لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم".
ولقد قال الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه: "إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم"، وذكر أبو بكر الأنباري كما نقل عنه القرطبي: "أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا، ثم فرِّق على النبي -صلى الله عليه وسلم- في عشرين سنة، وكانت السورة تنزل والآية جوابًا لمستجيب يسأل، ويقف جبريل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على موضع السورة والآية، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف، فكله عن محمد خاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم، فمن أخَّرَ سورة مقدَّمة أو قدَّم أخرى فهو كمن أفسد نظم الآيات، وغيَّرَ الروف والكلمات، ولا اعتراض على أهل الحق في تقديم البقرة على الأنعام، والأنعام نزلت قبل البقرة؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ عنه هذا الترتيب، وهو كان يقول: "ضعوا هذه السورة موضع كذا وكذا من القرآن، وكان جبريل -عليه السلام- يقفه على مكان الآيات".
ومن هذه الروايات المختلفة المؤتلفة المجمعة على أنَّ ترتيب السور بتوقيف، يتبين أنَّ المصحف الإمام هو الذي يصوّر العرضة الأخيرة للقرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل ما بين يديه ولا من خلفه.
ولكن ماذا يقال عن الروايات التي جاءت بأنه كان لأُبَيّ مصحف بغير هذا الترتيب، ولعلي -رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه- مصحف كان بترتيب النزول؟ لنا في الإجابة عن ذلك السؤال طريقان:
أولهما: أن نعتبر ما عليه الكثيرة التي تكاد تكون إجماعًا يؤخذ به، ويكون ذلك الإجماع دليلًا على ضعف ما عداه، وأنه لا يؤخذ به لعدم صحة السند.
ثانيهما: إنِّنَا نقول: إن ذلك كان قبل العرضة الأخيرة، وفي العرضة الأخيرة وضعت السور في مواضعها، وهذا ما اختاره القرطبي وغيره، فقد قال: "أمَّا ما روي من اختلاف مصحف أُبَيّ وعلي وعبد الله بن مسعود، فإنما كان قبل العرض الأخير، إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رتَّب لهم ترتيب السور بعد، إن لم يكن فعل ذلك من قبل".
وننتهي من هذا إلى أنَّ ترتيب السور كترتيب الآيات كان بوحي من الله العليّ الحكيم.