وإن هذا النص الكريم يدل -أولًا- على وحدة الشرائع السماوية فيما يتعلق بالقصاص، فهو شريعة عامَّة مشتقة من الفطرة الإنسانية، فهي عقوبة طبيعية لا مراء فيها.
وتدل -ثانيًا- على أنَّ القصاص كما يقع في الأنفس؛ لأن فيه حياة الجماعة آمنة مطمئنة، يقع أيضًا على الأطراف؛ لأن فيه حفظ سلامة الإنسان ومنع التشويه؛ إذ إن التشويه الإنساني يكثر إذا لم يكن عقاب رادع يجعل الجاني عندما يقدم على جريمته يتوقع أن يقع عليها مثلها، وذلك أمنع للجريمة، كما قرَّر بعض علماء القانون الذين درسوا النفس الإنسانية في الآحاد والجماعات.
وتدل -ثالثًا- على أنَّ الجروح يجري فيها القصاص ما أمكن، وقد استنبط من هذه بعض الفقهاء أنَّ القصاص يجري في اللطم والضرب بالسوط وغيره.
وتدل -رابعًا- على أنَّ في الترغيب في العفو إبعادًا لإحن القلوب، وتقريبًا للنفوس، ولذلك اعتبر العفو في موضعه من غير تشجيع للجريمة صدقة، وقال -سبحانه وتعالى:{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} .
وإن القصاص في موضعه إحياء للنفس المجني عليها، وإحياء للجماعة، وهو القضاء على الأحقاد والضغائن المستكنة في القلوب إن لم يكن سبيل لردعها، فقد قال تعالى بعد أن اعتدى قابيل على أخيه هابيل شفاءً لغيظه وحسدًا وحقدًا:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}[المائدة: ٣٢] .
وإن هذا يدل على أن القصاص إحياء للنفوس وتهذيب للجماعة.
٢٠٦- وإن القصاص فيه حفظ للنفس، فإن حفظ النفس يقتضي حفظ الأطراف وحفظ كل الأجزاء، وهو حق للعباد؛ لأنه عقوبة اعتداء مباشر عليهم، ولذلك كان قابلًا للعفو، كما ذكرنا وكما تلونا.
وأما حقوق الله أو حقوق المجتمع، كما يجري التعبير في هذا الزمان، فإن العقوبة المقررة فيها تختص بخاصيتين، إحداهما: إنَّها حماية للفضيلة، وحماية للمجتمع من أن تتغشاه الرذائل، والخاصية الثانية: إنَّها غير قابلة للعفو؛ لأنها إصلاح ليس فيه أيّ معنى من معاني الانتقام أو شفاء الغيظ، كما هو الحال في الدماء؛ ولأن إقامة الحدود عبادة، وهي العقوبات المقررة للمجتمع، فيُعَدُّ عبادة، فإذا كان العفو في القصاص يعد أحيانًا صدقة كما عبَّر القرآن الكريم، فإقامة الحدود من ولي الأمر القائم على رعاية مصالح المجتمع، وإقامة الفضائل ومحاربة الرذائل تعد عبادة، بل هي أعلى العبادات بالنسبة له، وأيّ عبادة أعلى من تطهير المجتمع من الشر.