الأمر الثاني الذي يجب التنبيه إليه: هو أنَّ الخمر كل ما يخامر العقل ويستره، ويمنعه من الإدراك المستقيم، سواء أكان النيئ من ماء العنب، أم كان المطبوخ منه، وسواء أكان من العنب أو البلح، أو غيرهما.
وعندما نزل ذلك النص القاطع في التحريم أراق الصحابة كل ما عندهم من دنان الخمر، ولم يكن فيها النيئ من ماء العنب، بل كانت كلها أنبذة.
فكل شراب من شأنه أن يسكر أو يؤدي إلى السكر يكون حرامًا، سواء أكان نبيذ العنب أو التفاح أو البلح أو البصل أو نيئ القصب، وسائر ما يخترعه الإنسان ليفسد عقله، وسواء أكان سائلًا أم كان جامدًا.
ولقد عرضنا لهذا الأمر لأنَّ بعض الفقهاء الكبار ظنَّ أن الخمر هي النيئ من ماء العنب إذا غلا فاشتدَّ وقذف بالزبد، فتعلق به الجاهلون، وحسبوا أنه يبيح الأنبذة، وهو يعلم أنَّها مسكرة، وطاروا بذلك القول؛ ليستبيحوا الخمر ويبيحوها، ونقول: إن ذلك الإمام الجليل قد أخطأ، وما كان عليهم أن يقلدوه في الرأي ليتمكنوا من شربها، بل كان عليهم أن يقلدوه في فعله، فقد قال -رضي الله عنه وعفا عنه:"لو أغرقت في الفرات على أن تناول قطرة من الأنبذة ما تناولتها".
٢١٤- وإنَّ القرآن إذ شدَّد في تحريم الخمر فإنه يعتبر ارتكابها جريمة تستحق العقاب، ولكن ليس في القرآن نصّ على عقوبة لها، وفيه نصّ على جريمة هي في كثير من الأحيان نتيجة لها، فإنَّ السكران لا يدري ما يقول، فينطق برفث القول وبالفسوق وهي جريمة القذف، ولقد قال علي بن أبي طالب في الارتباط بين الجريمتين، قال في عقوبة الشرب:"إذا شرب افترى، فيحد حد الافتراء، وهو حد القذف".
وقد ترك تقدير العقاب النص الصريح، أو بالعمل المبين للنبي -صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد روي عن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- أنه قال في الشارب:"إذا شرب فاضربوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه".
وقد قيل له -عليه الصلاة والسلام: إننا بأرض برد نستدفئ بالخمر، فقال -عليه الصلاة والسلام:"لا تشربوها" فقال القائلون: إنهم لا يستطيعون، فقال -عليه الصلاة والسلام:"فقاتلوهم".