وإن هذا النص الكريم يدل على حرمة الرشوة، وقد سمَّاها في موضع آخر السحت، ويدل على أن الرشوة أكل لأموال الناس، وإفساد للحكم، وضياع للعدل، وقد أشرنا إلى ذلك عند الكلام في أنَّ الأصل للعلاقة بين الناس هو مراعاة العدالة.
وقد ذكر القرآن أنَّ من أسباب ضياع اليهود وفساد الحكم فيهم السحت، وقد قال تعالى فيهم:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[المائدة: ٤٢] .
ومن أكل المال بالباطل تطفيف الكيل أو الميزان أو تقدير الأشياء بأيّ نوع من التقدير، فقد قال تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[الأنعام: ١٥٢] .
وترى من هذا الوعيد الشديد للذين يطففون، الذين يظلمون الناس في الكيل.
وقد يقول قائل: لماذا اختص القرآن من بين المعاملات المادية إيفاء الكيل والميزان بالذكر؟
ونقول: إن الوفاء في الكيل والميزان صورة حسية لعدالة المؤمن في المعاملات، ويتحقق فيها بالحسّ معنى قوله -عليه الصلاة والسلام:"عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به".
فالأمر بوفاء الكيل والميزان أمر بالعدالة النفسية والأدبية في كل العلاقات الإنسانية. وقد اهتمَّ القرآن بذلك.
٢٠٩- وإن الإسلام لحرصه على أن يكون التعامل على أساس سليم من العدالة والرضا الصحيح، أمر بكتابة الديون والعقود، والإشهاد عليها لكيلَا تكون مشاحة، والمشاحة تؤدي إلى المنازعة، بل أكل أموال الناس بالباطل، ولذا قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ