للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} .

تشايع القول وكثر، وصارت امرأة العزيز قالة الجماعات، فكان لا بُدَّ أن يستر الموقف، وستره في الجماعات الظالمة أو الجماعات المتسترة تكون على المظلوم دائمًا، ولا تكون على الظالم أبدًا، وذلك أن يسجنوه تخفيفًا للشائعة، أو توجيهًا لها لغير أهلها: {بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف] .

٢٤٠- هذه قصة فيها تكشف النفوس عن خبايئاتها، وهي توجيهات لتالي القرآن الكريم إلى حقائق النفوس، رجالًا ونساءً، أتقياء وفجَّارًا.

دخل يوسف في حياة جديدة، بعيدة عن كل مظاهر الزينة وبهجتها، وإذا كان الغلام ردف النعمة بعد أن ذاق البلاء ابتداءً، فقد جاءه البلاء مرة أخرى، ولكنه في هذه المرة ينزل إلى الضعفاء ويعاشرهم، يتصل بنفوسهم، وعلَّمه الله تعالى تأويل الرؤيا.

يدخل معه السجن فتيان: {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ، وهنا تبدو خوارق العادات والدعوة إلى الله على يد نبي الله يوسف -عليه السلام- يقول: {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ، يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ، وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: ٣٦-٤٢] .

لا شك أنَّ علم يوسف من غير معلم، وتأويله للأحلام من غير ملقن، بل بالإلهام المجرَّد من خوراق العادات التي تجري على أيدي الأنبياء.

خرج السجين الناجي من السجن، وصار ملازمًا للملك، ولكن فرحة الخروج والاتصال أنسته زميله في السجن، فزادات المدة ليزداد تعلُّمًا من أحوال الناس، حتى وجد حاجة الملك إلى من يئول رؤياه، فتذكَّر صاحبه عند الحاجة إليه، وهذه كلها

<<  <   >  >>